إسطنبول التركية مدينة السلاطين
تشعر وأنت تحط في العاصمة التاريخية لتركيا، أنك في بلد لا تفقه لغته لكنك قادر على أن تتواصل مع أهله. لون البشرة، ملامح الوجوه، إيقاع الكلمات، كل هذا لا يشعرك بغربة في إسطنبول حين تكون عربيا. وإن أقمت كغالبية السياح، في منطقة «تقسيم»، أي في الوسط الغربي (الأوروبي) للمدينة فلن يخيب ظنك، إذ ستقع على من يتكلمون العربية أينما توجهت وبالتأكيد ليس الإنجليزية أو الفرنسية؛ حيث إن اللغات الغربية لم تدخل المدارس إلا مؤخرا. فأنت ستلتقي حتما بالسياح القادمين من مختلف الدول العربية أو أنك ستقع على الأتراك الذين يتداولون عبارات عربية، بحكم التعاطي المتزايد مع العرب، أو بسبب الخمسة آلاف كلمة المشتركة بين اللغتين. على مبعدة أمتار من ساحة تقسيم تعثر على «شارع الاستقلال» الضخم المخصص للمشاة والذي تصطف على جانبيه متاجر من كل صنف، حيث تختلط المطاعم بمتاجر الملابس ومعها المنتوجات التقليدية التركية. خليط من البضائع، وعدد من الرواد، في شارع لعلك لم تر مثيلا له في العالم، حيث يزوره كل يوم ثلاثة ملايين إنسان، أي ما يوازي عدد سكان بلد مثل لبنان.
الوجهة الأولى التي لا بد أن تستقطبك كسائح عربي في عاصمة السلطنة العثمانية هي منطقة «سلطان أحمد»، أهميتها أنها كانت مركزا للمدينة طوال 900 سنة، أيام الحكم البيزنطي (المسيحي)، ومن ثم خلال العهد العثماني (الإسلامي). إنها خليط من الهندسة المعمارية التي تزاوج بين الفخامة الغربية والروحانية الشرقية. أول ما تعثر عليه في «سلطان أحمد» ساحة «الهيبودروم». إنها شاسعة، لا تخطئها عين، حركة السياح فيها لا تهدأ. إنها أحد الشواهد الباقية على العهد البيزنطي للمدينة، حيث كانت الساحة مركزا لسباق الخيل، وباتت اليوم أحد المعالم البديعة لهذا المكان العبق بالتاريخ. في الساحة اليوم نافورة من الزمن العثماني، وهي هدية من الملك الألماني ويليام الثاني للمدينة، بمناسبة زيارته لها عام 1895، حفر عليها اسم الملك الألماني والسلطان عبد الحميد، كما تشمخ في الساحة مسلة مصرية تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، جلبها الإمبراطور ثيودوسيوس الأول من الأقصر ووصلت مكسورة الرأس، إلى هنا. كما يشاهد الزائر على الجانب الآخر من الساحة عمودا جلب من اليونان في عهد قسطنطين، يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي، وهو برونزي تظهر عليه أفاع متشابكة.
إلى جانب هذا التراث البيزنطي القديم، وعلى مبعدة خطوات منه يشمخ «الجامع الأزرق»، أو ما يعرف باسم جامع السلطان أحمد، شيد في القرن السابع عشر الميلادي، قبابه المتداخلة الضخمة كما مآذنه الست، تظهر بوضوح تأثر هندسته بكنيسة «آيا صوفيا» التي تبعد أمتارا قليلة عنه. ويروى أن السلطان أحمد مول بناء المئذنة السابعة في المسجد الحرام، كي يتسنى له بناء 6 مآذن، مع احترامه لتمايز المسجد الحرام. كل الترتيبات اتخذت لزيارة السياح لهذا المسجد المميز بإضاءته التي حافظت على نمطها القديم، كما السيراميك الذي يغطي جدرانه، وقبابه التي تجعل سقفه فرجة لمن يتذوق الفن المعماري. يطلب من الزوار خلع نعالهم، ويفرض على النساء الغطاء مع السماح بالشعر المكشوف. شيء من المصالحة بين علمانية تركيا وهويتها الإسلامية التي يعتز بها الأتراك ويفاخرون.
لا يستطيع الزائر أن يمنع نفسه من المقارنة بين قباب «آيا صوفيا»، وقباب «الجامع الأزرق»، لا سيما وأن المبنيين متقاربان جغرافيا، ويمكن للعين أن تتنقل بينهما. فالثاني شيد من وحي الروعة الهندسية لهذه الكنيسة التي بناها للمرة الأولى فسطنطين الكبير في القرن الرابع الميلادي، وللمرة الثانية في القرن الخامس. أما المبنى القائم اليوم فهو يعود للقرن السادس، حيث بقي كنيسة ما يقارب 900 سنة ليتم تحويلها إلى جامع بعدها، واستمر هذا الصرح مسجدا 480 سنة، حتى قرر أتاتورك عام 1935 أن يحوله متحفا، منهيا حالته الدينية، ليصير قبلة للسياح، يعني لأتباع كل دين ما يعنيه. وأجمل ما يراه الزائر داخل آيا صوفيا الفسيفساء والرسوم الدينية المسيحية إلى جانب الآيات القرآنية، وعمود الحظ الذي يقف السياح أمامه في طابور طويل ليدخل كل سائح إصبعه في ثقب حفر فيه، لشدة ما لمسته وجورته أصابع البشر، إيمانا منهم بقصة قديمة تقول إنه يجلب لمن يلمسه السعد.
السعادة لا بد تغمرك مع العمود ومن دونه حين تغرق متأملا، أماكن تدخلك في قلب تاريخ عريق، شامخ، يشكل جزءا من وجدانك. ففي منطقة السلطان أحمد نفسها التي تجتمع فيها كل هذه المعالم، هناك أيضا «الباب العالي»، الذي قرأت عنه كثيرا في كتبك المدرسية. وهو القصر الذي حكم منه الأتراك إمبراطوريتهم المترامية، ويطلقون عليه اسم قصر «توب كابي».
ورغم أن الشركات السياحية تخصص لمنطقة «سلطان أحمد» ومعالمها الباهرة يوما واحدا فقط، فإن الباب العالي وحده يحتاج يوما كاملا، لو كنت من عشاق قراءة الأشياء بتمعن. ففي قصر السلاطين العثمانيين هذا، إضافة إلى الصالات الفخمة، والأثاث والملابس، والمطابخ، والأسلحة، هناك مستلزمات السلاطين العثمانيين، من رسوم وكتب ورسائل وأختام، وكل الهدايا الثمينة التي تلقوها من كافة أنحاء الدنيا. سواء من الولاة العرب والمسلمين أو من الغرب، يوم كانوا أسياد العالم. وفي هذا القصر، ترى جواهر ومذهبات، ومرصعات، ربما لم تر عينك مثيلا لها قط، ليس من حيث أوزانها وأحجامها القياسية فقط، ولكن أيضا لقيمتها الجمالية والفنية. ومن أروع ما يمكن أن تشاهده، العروش التي جلس عليها السلاطين، والتي يشكل كل واحد منها اليوم، بما رصع به وزين، ثروة لا يستهان بها. إنها الأبهة العثمانية بكامل جلالها وعظمتها هي التي تراها في الباب العالي بحدائقه الغناء وشرفاته الرخامية المطلة على البحر، حتى كأنها تسبح فيه. ويفخر الأتراك بشكل أساسي بالمقتنيات ذات الطابع الديني حيث تعرض في جناح الأمانات المقدسة، سيف النبي وعصاه، وضرسه، إضافة إلى مقتنيات تعود للصحابة، ومفاتيح الكعبة.
الرحلة في مضيق البوسفور جزء من الجولات السياحية التي يقوم بها عشرات آلاف السياح الذين يقصدون إسطنبول سنويا. رحلة بحرية تجعلك تغوص في قلب التاريخ والجغرافيا أيضا. وأنت في المركب الذي يمخر بك عباب البوسفور ترى أوروبا إلى يسارك وآسيا إلى يمينك. الجانب الأوروبي من إسطنبول عامر بالفنادق والجامعات والقصور التاريخية. منازل فخمة ومتنزهات، كما المطاعم والمسابح الفاخرة. وترى أيضا المكان الذي هبط فيه محمد الفاتح زاحفا إلى إسطنبول. يشرح الدليل تاريخ كل مبنى، واسم المعماري الذي هندسه، كما السنة التي شيد فيها، والدور الذي لعبه، بينما يستمر المركب في المسير، حتى يصل إلى منزل يبدو قديما من الخارج، لم يلق عناية البيوت الفخمة الأخرى. هنا يتوقف المركب تماما ويقول الدليل: «انظروا إلى يساركم هذا هو منزل نور ومهند، لقد كان الدخول إليه يكلف 60 ليرة، بعد عرض مسلسلهما في العالم العربي، بينما كان سعر بطاقة الدخول إلى قصر «دولما بهتشه» الشهير الذي عاش فيه السلاطين العثمانيون لا يتجاوز 50 ليره». ويضيف الدليل: «لكن البيت مغلق الآن، وسنكتفي برؤيته من الخارج».
أما قصر «دولما بهتشه» الذي يقع على مضيق البوسفور، فهو المكان الذي سكنه ستة من السلاطين العثمانيين، بدءا من السلطان عبد المجيد عام 1856 وحتى الخليفة العثماني الأخير، ليعود إليه أتاتورك ويستخدمه كمقر لرئاسة الجمهورية ما يقارب عشر سنوات. كل شيء في القصر محفوظ بعناية، من الهاتف الأريكسون الذي أدخل إلى القصر عام 1908 إلى الثريات الكريستال الضخمة جدا والمطلية بالذهب، والسجاد الفخم والمكتبات العامرة، وصولا إلى غرفة نوم أتاتورك التي توقفت ساعاتها عند لحظة موته. هذا القصر هو نموذج يستحق أن يزار، ليفهم الزائر مستوى البذخ الذي عاش فيه السلاطين العثمانيون، ويقال إن تكلفته الباهظة كانت أحد أسباب انهيار السلطنة، إذ فيه 285 غرفة و44 صالة و68 مرحاضا و6 حمامات تركية.
لا يمكن لزائر إسطنبول أن لا يدهش لكثرة مساجدها البديعة، بمآذنها المتعددة وقبابها المركبة حتى ليصح أن يطلق عليها اسم مدينة المساجد. وهي لمساحتها الهائلة أصعب من أن تزار في أربعة أيام تنظمها المكاتب السياحية عادة، تسلق فيها زيارات المعالم التاريخية سلقا سريعاَ. ولعل بعض الأيام الإضافية الحرة هي الحل لاكتشاف إسطنبول بحياتها اليومية وحيويتها النابضة. ويمكنك منفردا، وباستخدام وسائل النقل المشترك، من مترو وباص وترامواي، زيارة الحمام التركي في بلاده، أو التعرف على الأسواق الشرقية المتعددة. هناك مثلا «السوق المغطاة» التي يرتادها نصف مليون إنسان يوميا، فيها 3500 دكان ولها 18 بابا، تجد فيها كل ما تشتهي، لكن الشراء صعب لكثرة ما تنزل الأسعار وتطلع، حتى ليصعب معرفة السعر الذي يمكنك المساومة عليه. هناك أيضا «السوق المصرية» العابقة بالبهارات والمنتوجات التركية، و«سوق إسطنبول للفنون» التي تعود إلى القرن الثامن عشر.
أما «المولات» أي الأسواق الحديثة، فلكل منها خصوصية تجذب السائح. الطابق الأخير لمول «سفير» المسيج بحوائط من زجاج، هو المكان الأفضل الذي تستطيع أن تكتشف منه المدينة كلها، وكأنها في قبضة يدك، وفي الطابق نفسه تستطيع أن تركب طائرة افتراضية تجوب بك أهم معالم إسطنبول بالأبعاد الثلاثة، وتقلع بك الطائرة من مكان إلى آخر، خلال 15 دقيقة فقط، لتكمل جولة تخطف القلوب حتى لتنطلق صرخات المتفرجين وكأنهم باتوا بالفعل في الفضاء. أما مول «جواهر» ففيه مدينة للألعاب يقصدها محبو اللهو من كل الأعمار، وفي مول إسطنبول معرض الديناصورات، كما أكواريوم ضخم يضم أهم أنواع الأسماك وكذلك نافورة مياه تتراقص على أنغام الموسيقى الكلاسيكية.
من الملاهي الليلية إلى رقص الدراويش، ومن العشاء على متن بواخر البوسفور إلى التجوال بين الآثار، تحتار: ما الذي يمكن أن تزوره في إسطنبول، أهي المتاحف الكثيرة التي يصعب حصرها، أم تطارد السور البيزنطي الذي لا يزال شامخا، أم تراك تذهب إلى «جزيرة الأميرات» الفريدة من نوعها، والتي يمنع استخدام السيارات فيها، ويقتصر سكانها على ركوب الأحصنة والحناتير، ويسكنون البيوت الأرضية الوديعة. «تلة العرائس» لا تفوتك أيضا، إذ تذكرك بمنطقة «مونمارتر» في باريس، حيث تصبح على تلة مرتفعة ترى منها الجانب الآسيوي لإسطنبول وهو ممتد على مرمى بصرك.
مدينة السلاطين العثمانيين، هي متعة للزائر، ولعلك لن ترى في أي مدينة أخرى هذا الكم من السياح يطاردون التاريخ، من كنيسة إلى جزيرة، ومن سوق إلى مسجد، ومن قصر إلى حمام، حتى يكاد الماضي ينتفض من قمقمه.