أعلى

 

 

تخيل نفسك مسترخيا على مصطبة من الرمال‏ الناعمة..‏ أمام أمواج المتوسط الهادئة، والقمر ينشر أشعته الفضية الخالصة ليخفف من عتمة السواد‏..‏ والنجوم تضوي‏..‏ وهي تقطر حليبها الصافي‏..‏ قطرة..‏ قطرة، وبعيدا عن صخب المدن وتلوثها وتهورها عشت أياما في هذه الحالة منتشيا بسكون الطبيعة..‏ متوحدا معها‏..‏ مستسلما لها في قبرص التركية، ‏المكان يسمى «آراب كوي» أو «قرية العرب» على امتداد شواطئ شاتالكا بالقرب من قبر عمر تورباشي أو الإمام عمر. وأينما تذهب في مدن قبرص التركية يقابلك الناس بالابتسامة، ويشعرونك وهم يتحدثون إليك بأنك جزء منهم. إنهم أناس طيبون في أرض طيبة.
وقرية شاتالكا مبنية على سلسلة جبال في مواجهة مياه المتوسط ‏..‏ لا سرقة‏..‏ لا كذب‏..‏ لا أبواب مغلقه بالترابيس‏..‏ بل وجوه مبتسمة‏..‏ لسانها لم ينفلت‏..‏ وأعصابها لم تنكسر‏..‏ وسكونها النفسي لم ينفجر‏..‏ وتطلعاتها المادية المجنونة لم تجبرها على الفساد‏، أكلات متوسطية في كل مكان تبدأ بعشرات الأطباق الصغيرة من «المزة»، ثم أطباق المشاوي و«لحم عجون» والختام بـ«قهوة تركية» «سادة» أو «أورتا» متوسطة المذاق، أو «شكر لي» وتعني بسكر زيادة. ‏ لقد منحت هضاب قبرص الفرصة كاملة للتوفيق بين المتناقضات.
هناك تجد في «آراب كوي» أو القرية العربية فلل الإنجليز والأثرياء الهاربين من منغصات المدن، جاءوا إلى قبرص للتقاعد، بحثا عن حياة هادئة آمنة بدون تعقيدات. ويبدو القطاع السياحي بمثابة رهان كبير لدى القبارصة الأتراك، كما هي الحال لدى القبارصة اليونانيين أنفسهم. غير أن الشطر الشمالي التركي لم يحصل حتى الآن سوى على نسبة ضئيلة من السياح الوافدين للجزيرة.

 

 

الشطر الشمالي من جزيرة قبرص الذي لا يعترف به كدولة إلا تركيا التي كانت وراء انفصاله عن الشطر الجنوبي عقب تدخلها العسكري في الجزيرة يوم 2 يوليو (تموز) 1974 لإنقاذ القبارصة الأتراك ووقف انقلاب عسكري قام به قبارصة يونانيون بهدف ضم جمهورية قبرص التي تأسست عام 1960 لليونان. وخلال زيارة سريعة إلى قبرص التركية يمكن الحديث عن ذكاء القبارصة الأتراك الذين أعيتهم الحيل لإقناع العالم بعدالة قضيتهم إلا أن وقوف القبارصة اليونانيين لهم بالمرصاد أمام أي تحرك عالمي نحوهم حال دون رفع العزلة والعقوبات الدولية التي فرضت عليهم بعد إعلان جمهورية شمال قبرص التركية دولة مستقلة عام 1983. هذا الذكاء دفع القبارصة الأتراك الذين لا يمكنهم الاتصال بالعالم إلا عن طريق تركيا، إلى التفكير في وسائل مبتكرة لإزاحة صخرة العزلة والعقوبات الجاثمة علي صدورهم. ومن هنا ركز القبارصة الأتراك جهودهم علي قطاعي السياحة والتعليم إلى جانب استغلال وسائل الإعلام العالمية في الدعاية لقضيتهم وإظهار مدى عدالتها دون أن يكلفهم ذلك الكثير وذلك بدعوة صحافيين وممثلين لوسائل الإعلام المختلفة لزيارة شمال قبرص في مناسبات مختلفة وشرح القضية لهم بالتفصيل وترك الأمر لضمائرهم كي تحكم بالعدل وتكشفه أمام عيون العالم. في قطاع السياحة مثلا نجح زعماء قبرص التركية التي يبلغ عدد سكانها 462 ألف نسمة في تعزيز هذا القطاع جيدا وتكثيف الاستثمارات فيه لدرجة أن عدد السائحين وصلوا حاليا إلى ما يزيد على مائتي ألف سائح، ويجتهد القبارصة الأتراك في التسويق لجزيرتهم والدعاية للاستثمار بها في مجالات سياحة الاهتمام الخاص لكبار السن الذين يأتون من بلاد قلما ترى الشمس والسياحة الصحية وسياحة المؤتمرات، وفي هذا الإطار شيدوا خلال السنوات الماضية الكثير من الفنادق والمنتجعات السياحية وحسنوا كل ما يتعلق بصناعة السياحة. وفي قطاع التعليم الذي يؤكد زعماء القبارصة الأتراك أنه لا يخضع للعقوبات والعزلة، أقامت شمال قبرص ست جامعات يدرس فيها 40 ألف طالب وتمنح شهادات دولية وتخضع لكل المعايير العالمية الخاصة بالجودة. وتقوم بالدعاية لهذه الجامعات بكل الوسائل الممكنة وغير المكلفة.

 

 

كانت الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر بالتوقيت المحلي (وهو ذات التوقيت للقاهرة) عندما حطت بنا الطائرة في مطار لارناكا الدولي، في القسم اليوناني، وبعد نحو ساعة بطريق البر، كنت أعبر الممر الحدودي، وفي أقل من 3 دقائق حصلت على تأشيرة دخول على ورقة منفصلة عند المعبر التركي «ميتهان كارميا»، بسبب أن الشطر الشمالي التركي لا تعترف به سوى أنقرة، وهناك مدخل آخر إلى قبرص التركية وهو مطار إرجان في جمهورية قبرص التركية، للقادمين من اسطنبول. ومطار إرجان هو المطار الرئيسي في الشطر التركي من قبرص، حيث إن مطار نيقوسيا القديم مغلق على خلفية النزاع بين الشطرين القبرصيين التركي واليوناني، ويرفض الجانب اليوناني حتى الآن فتحه، كجزء من الحصار المفروض على القبارصة الأتراك. وتجد في مطار إرجان لمسة جلية من الأناقة والجمال، لكن باستثناء الخطوط الجوية التركية، وبالإضافة إلى الملاحة الجوية، يوجد لدى جمهورية قبرص التركية مجموعة من الموانئ. وقد قدر لنا الذهاب إلى ميناء كيرينيا، الذي يعتمد نشاطه بصفة أساسية على خط ملاحي يربطه بمدينة أضنة التركية، حيث تستغرق الرحلة على هذا الخط نحو أربع ساعات. وهناك رحلات سياحية كثيرة تنطلق من كيرينيا باتجاه سواحل قبرص التركية ذاتها.

 

 

وتمتد جمهورية قبرص التركية على مساحة من اليابسة تبلغ ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسة وخمسين كيلومترا مربعا، من أصل تسعة آلاف ومائتين وواحد وخمسين كيلومترا مربعا هي إجمالي مساحة جزيرة قبرص، التي تعد ثالث أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، بعد صقلية وسردينيا، وهي لا تبعد سوى 64 كيلومترا عن جنوب تركيا. وعلى الرغم من أن مساحة الشطر الشمالي التركي تعادل نحو نصف مساحة الشطر الجنوبي اليوناني، فإن الشمال يتمتع بسواحل طويلة وممتدة، مما يعطيه تفوقا في المكانة الاستراتيجية.

 

 

وثمة خلافات وتباينات تاريخية ممتدة بين الشطرين الشمالي والجنوبي، وتحمل ذاكرة القبارصة الأتراك إرثا تاريخيا ثقيلا. وعلى الرغم من ذلك، لم أستمع من الشخصيات الرسمية في الشمال إلى أي حديث مرتبط بهذه الذاكرة، وكل ما عرفته عن هذا الأمر تكوّن لديّ من قراءات خاصة. وقد لمست لدى الشخصيات القبرصية التركية حرصا واضحا على طي صفحة الماضي والتطلع إلى الأمام، حيث يحدوهم الأمل في إعادة توحيد الجزيرة على أساس فيدرالي، وبحيث تغدو قبرص جزءا موحدا من الاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى أن نيقوسيا، وتسمى «لافكوشا» لدى القبارصة الأتراك، قد غدت مقسمة على جانبي الخط الأخضر الذي يفصل شطري الجزيرة.

 

 

وقبرص جزيرة لا تنام في الصيف، وتمتلك مقومات سياحية عديدة، تجتمع في وجهة واحدة، وتعد مدينة لارناكا هي البوابة الرئيسية للوصول إلى تلك الجزيرة الجذابة التي تتصف بطقسها المعتدل على مدار العام أو مطار إرجان في الجانب التركي. ورغم مساحتها الصغيرة نسبيا فهي من أهم الوجهات السياحية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي تجمع بين الماضي والحاضر، إذ يكفي لعشاق التاريخ والآثار، حيث وضعتها منظمة اليونيسكو على قائمة المواقع التي تمثل تراثا للإنسانية جمعاء. وتتوفر لعشاق الشمس والبحر شواطئ لا نهاية لها، بمياه تنافس في زرقتها لون السماء، وهناك عوامل كثيرة للجذب السياحي في قبرص يمكن تلخيصها في كلمة واحدة «التنوع» بما في ذلك توفر منتجعات صحية في كثير من الفنادق، والشعب القبرصي المضياف سواء التركي أو اليوناني يعتبر هو بذاته ثروة سياحية. فقد حافظ على أصالة تقاليده في الترحيب بالزوار رغم أنه في الوقت نفسه واكب روح العصر وإيقاعه السريع.

 

 

ولا يزيد سكان قبرص التركية كثيرا على المائة وخمسين ألف نسمة، ولديها الكثير من الطلبة الذين يتلقون تعليمهم في جامعات أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة، فضلا عن جامعات تركيا المختلفة. وقد علمت أثناء وجودي في الشطر القبرصي التركي من كبار المسؤولين عن التعليم أن كتب التاريخ المدرسية في المرحلتين الابتدائية والإعدادية قد تم تغييرها مؤخرا لتتواكب مع التوجه الجديد في هذا الشطر، والقاضي بالتركيز على القواسم المشتركة والنقاط المضيئة في التاريخ القبرصي، والابتعاد عن كل ما من شأنه خلق ذاكرة مريرة لدى الأجيال الصاعدة. وفهمت كذلك أن مناهج التاريخ الجديدة التي دخلت مرحلة التطبيق تبتعد عن أسلوب التلقين والحفظ، وتركز على التحليل والاستنتاج الذاتي. وقيل لي إن إعادة كتابة مناهج التاريخ ستبقى مستمرة حتى المراحل العليا. وللإنصاف، فإن هذه قضية تحسب للقبارصة الأتراك.

 

 

في المقابل، فإن قبرص التركية لديها ست جامعات بعضها دولية، يحتوي بعض منها على عدد من الطلبة الوافدين من دول مختلفة، من ضمنهم بعض الطلبة العرب. ومن الواضح أن الدراسة هناك لا تكلف كثيرا، كما أن مستوى المعيشة يبقى ضمن المعقول. وإذا سألت شخصا في العاصمة القبرصية نيقوسيا هذه الأيام عن الشيء الوحيد الذي لا يغادر منزله دونه لكانت الإجابة التي ربما لا تتوقعها «جواز السفر» في معظم الحالات. فقد صارت نيقوسيا أو «لافكوشا» باللغة التركية بالنسبة لزوار قبرص، تلك الجزيرة الشرق متوسطية، فجأة أكبر وأكثر إثارة منذ أن أزيلت في وقت سابق المتاريس التي ظلت تفصل الحي التجاري الرئيسي بالعاصمة بطول شارع ليدرا لنحو نصف قرن. الآن أصبح حمل جواز السفر أسلوب حياة لقسم كبير من المقيمين في آخر عاصمة مقسمة في أوروبا.

 

 

 

ويقول جوفان أروغلو ناظر مدرسة ابتدائية في الجانب التركي وهو يتناول غداءه في «لحم عجون» الذي لا يبعد كثيرا عن نقطة العبور في شمال المدينة «يا له من اختلاف نفسي.. الآن أتجول وبحوزتي جواز سفري طول الوقت لأنك لا تعرف أبدا متى ستتلقى مكالمة لمقابلة أصدقاء لتناول القهوة معهم على الجانب الآخر». ويردف «بعد سنوات من التقسيم نشعر وكأننا نعيش في مدينة واحدة». وكان التحرك لفتح شارع أو بالأحرى معبر ليدرا القائم في المنطقة العازلة التي تسيطر عليها الأمم المتحدة قد تم الاتفاق عليه في مارس (آذار) 2008، بين الرئيس المنتخب الجديد للقبارصة اليونانيين ديمتريس كريستوفياس والزعيم القبرصي التركي السابق محمد علي طلعت واللذين قررا أيضا استئناف محادثات التوحيد. وفي هذا اليوم احتشد الناس، وأطلقوا البالونات، وهتفوا شعارات من أجل «السلام». وقد جاء الافتتاح ذلك بمثابة تتويج لجهود الزعيمين القبرصيين، اليوناني كريستوفياس، والتركي محمد علي طلعت، اللذين كانا قد تعهدا باستئناف المفاوضات (المتعثرة منذ العام 2004) بينهما، بدءا من يونيو (حزيران) المقبل، بهدف إعادة توحيد الجزيرة، على أن يعملا على «فتح معبر ليدرا في أقرب وقت ممكن».

 

 

وكانت المتاريس أقيمت في شارع ليدرا بداية من عام 1964 عندما قررت قوات حفظ السلام تقسيم الشارع وبالتالي المدينة بين اليونانيين والأتراك نتيجة للقتال بين الجانبين». وتم تقسيم الجزيرة برمتها منذ عام 1974 عندما غزت تركيا الثلث الشمالي من الجزيرة ردا على انقلاب قادته أثينا استهدف توحيد الجزيرة مع اليونان. وبينما يتطلب عبور شارع ليدرا من جانب لآخر، وعلى غرار أي معبر آخر، إبراز المشاة جواز السفر أو بطاقة الهوية فإن إعادة افتتاحه تعد مؤشرا على مناخ الثقة في إطار الجهود الرامية لحل المشكلة القبرصية المزمنة بعد سنوات من الجمود.  وكانت خطة سلام تبنتها الأمم المتحدة لإعادة توحيد الجزيرة عام 2004 منيت بالفشل بعد رفضها بصورة واسعة من قبل القبارصة اليونانيين في استفتاء على الرغم من تصويت القبارصة الأتراك لصالحها بأغلبية ساحقة.  وشارع ليدرا تاريخ يجسد بقوة تقسيم الجزيرة أو المحاولات الفاشلة على مدى عقود من الزمان لإعادة توحيدها». وصار بمقدور القبارصة لأول مرة منذ 40 عاما السير عبر شارع ليدرا بأكمله لا يقطع سيرهم مواقع عسكرية تسد المدخل الذي يمتد داخل شريط فاصل بطول 80 مترا.

 

 

والآن وبعد فتح الشارع يجد الكثيرون في حجم المقاهي وعربات بيع الكباب والمحال التجارية التقليدية في الشمال تناقضا صارخا محببا إلى النفس مع مجموعة المحال الراقية ومطاعم الوجبات السريعة في الجنوب. وعلى الرغم من أن شارع ليدرا هو سادس معبر يتم افتتاحه في الجزيرة منذ قيام القبارصة الأتراك برفع القيود عام 2003 فإن ارتباطه بشكل مباشر بقلب القطاع التجاري في المدينة يكسبه أهمية نفسية وعملية. وعلى مستوى التسوق في قبرص التركية، يمكن ملاحظة أن الأسواق المعفاة من الضرائب تمتلك قدرة على جذب الزبائن من المواطنين والسياح على حد سواء، وثمة بضائع محلية وتركية تباع بأسعار تنافسية. كذلك فإن السلع والمنتجات التراثية تبقى ذات قيمة ومغزى خاص لزائري الشمال القبرصي.

 

 

وفيما يتعلق بالتجارة المباشرة، تبدو الأهمية بالغة للقطاع الزراعي على وجه الخصوص، حيث لا يجد القبارصة الأتراك سوقا كافية لتصدير منتجاتهم من الخضرة والحمضيات والزيتون. وتقوم الحكومة بشراء زيت الزيتون من المزارعين وتصديره للخارج، بينما يسعى المزارعون لبيع ما يمكن بيعه من الزيتون نفسه. وعلمت من أحد القبارصة الأتراك أن إنتاج الزيتون هناك يعتمد بصورة أساسية على مزارع الفلاحين الصغيرة المنتشرة في القرى، وأنه ليست هناك استثمارات كبيرة في هذا القطاع، وذلك بسبب ظروف العزلة. وتعتبر المائدة التركية القبرصية من أقرب الموائد للذوق العربي نظرا لتأثر المطبخ القبرصي بجيرانه كالمطبخ التركي العثماني واليوناني، كما تشتهر المائدة القبرصية بطابعها المتوسطي، حيث تحافظ معظم المطاعم على قائمة الطعام نفسها، وهي عامرة بأصناف عديدة من المأكولات البحرية، وتنتشر المطاعم المتخصصة في هذه المأكولات في مختلف المناطق التركية، ويندهش السائح عندما يجد أن العديد من الأطباق القبرصية التقليدية تشبه الأطباق العربية إلى حد كبير لا سيما اللبنانية والسورية منها، حيث يمكن للمرء أن يتذوق في قبرص العديد من الأطباق المألوفة والغريبة على حد سواء. كما أن الشعب القبرصي شعب مضياف بطبيعته، ولديه براعة وموهبة خاصة لجعل ضيوفه وزواره يشعرون بأنهم كما لو أنهم في أوطانهم، كما يمتاز أهل الجزيرة بحبهم للفرح والبهجة وقضاء الوقت الجميل وخاصة في هواء الجبل الصافي الممزوج بعبير الليمون والبرتقال الموجود أسفل الجبل. وفي كل قرية يمر بها السائح سيسعد أيضا بأشيائها الخاصة مثل جبن الماعز الجبلي، والكرز الطازج وماء الورد والتين الشوكي».