أعلى

 

 

 

قد يظن البعض أن سيدني هي العاصمة الأسترالية؛ إنما في الواقع كامبيرا هي العاصمة الرسمية، ولكن سيدني مدينة مهمة في أستراليا؛ إن من ناحية الحجم والقوة الاقتصادية والسياحية والتجارية أو الديمغرافية.لكن، كيف أخذت مجرد مدينة كل هذا البريق، في بلد لا تقل مساحته عن مساحة الولايات المتحدة الأميركية سوى بفارق بسيط، يكاد لسعة المساحة أن لا يلحظ، بل لا يكاد يمكن تمييز الفارق بينهما بسبب التعددية الهائلة في المناخ والطبيعة التي تتشابه في كثير من الخصائص. باستثناء كوينزلاند التي تمتاز بمناخ استوائي جاذب للسياح.

 

غير أن سيدني، التي أول من وصلها المستعمر الإنجليزي الكابتن كوك، كانت المحطة الأولى في رحلة استعمار القارة كاملة. هي المدينة الأولى إذن، وهي المدينة التي ستبقى تحت الأضواء دون غيرها، كذلك الشهرة العالمية التي لا تحدها حدود. كما أنها المدينة التي تضم أهم معلمين من معالم أستراليا، عالميا، دار الأوبرا الشهيرة والمعروفة بهندستها الفريدة، التي أدخلت إلى عالم الأوبرا المفارقة المعاصرة دون أن تفقد فن الأوبرا، الأوروبي أساسا، ميزاته العديدة، ثم جسر هاربور الذي يجاورها، ليكونا علامة عالمية لأستراليا، ومهبطا للحالمين بالوصول إلى تلك البقعة القصية من العالم.

 

لا يمكن الذهاب إلى أستراليا دون المرور بسيدني، من لا يزورها كمن لم يزر أستراليا، الكبيرة، المترامية الأطراف، وإن كانت بقلب أجوف. فالمدينة شعار القارة، تماما كما نجد في العالم مدنا تأخذ البريق من غيرها. نيويورك بناها المستعمرون والمهاجرون أيضا.. غيرها من المدن تكابد للوصول إلى كاحلها في الشهرة.. لكن عبثا كل ما تفعله هذه المدن. سيدني أيضا مدينة مهاجرين ومستعمرين، لكن الأهم في هذا، مفارقة التاريخ؛ نيويورك بناها خليط من الأشخاص الحالمين، وسيدني بنتها مجموعة من السجناء الذين يقودهم جيش وضباط وأوامر صارمة، وغير ذلك حياة قاسية جدا، لا يمكن لسجين أن يبني مدينة.. نعم، يمكنه أن يحلم من سجنه ببناء العالم، لكن الأحلام في السجن شيء وفي الحرية شيء آخر.

 

بدأت رحلة المدينة من أكبر بيت بني فيها، كان «هايد بارك باراكس»، المعروف اليوم بهذا الاسم، سجنا للرجال والأولاد المدانين بجرائم في بلدانهم. بفضل العقلية الإنجليزية الكولينيالية، وبعد أن تم اكتشاف هذه القارة التي كانت تسمى يومذاك «هولندا الجديدة»، تم ترحيل عدد كبير من السجناء للعمل هناك. قال لي كريغ نيلسين الباحث في جامعة جنوب أستراليا، والمناصر الفذ للقضية الفلسطينية: «نحن في هذا البلد لا يمكننا منافسة الآخرين ثقافيا؛ أجدادنا لم يكونوا سوى مجموعة من المجرمين قادهم المستعمر الإنجليزي إلى هنا من أجل العمل (هؤلاء السجناء هم الذين بنوا أستراليا بداية)». أما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد استقر فيها عدد كبير من الجنود الذين ساقتهم خطط الحرب إلى هناك. في أدلاييد، عاصمة جنوب أستراليا، لا يزال لغاية اليوم يرتفع النصب الذي رفع عام 1915 على شكل مسلة فرعونية وكتب على كعبه باللغة الإنجليزية كلمة «فلسطين»، وهي ترمز إلى وجهة الجنود الإنجليز الذين ذهبوا مع الجيش إلى هناك. أما في سيدني، فبمجرد الدخول إلى ما يسمى اليوم «هايد بارك باراكس»، يمكن تحسس الآثار الفعلية للمستعمر.. المبنى المؤلف من ثلاثة طوابق، لم يكن في ذلك الزمان الغابر سوى السجن الذي كان هؤلاء المساجين الذين جلبوا من سجون بريطانيا وآيرلندا وأسكوتلندا وبعض المستعمرات ينامون فيه ويموتون فيه أيضا بسبب الأمراض. غير أنهم كانوا في ذلك الزمان يقضون سحابة نهارهم في العمل المرهق، وحتى المبنى كان من تصميم أحد المساجين وهو فرانسيس غرينواي في عام 1819. قبل ذلك كانوا ينامون تحت الأشجار وعلى حافة البحر القريب. بين تشييده والفراغ منه كسجن، مر على هذا المبنى نحو خمسين ألف سجين، كانوا مدانين أمام المحاكم البريطانية. وبسبب وجود نساء بينهم، بنيت بعض العنابر في الطابق العلوي، لفصلهم كليا عن الباقين أثناء النوم.

 

لا يمكن اليوم لزائر المدينة، إلا أن يتمتع ببعض المباني الرائعة في هندستها، وهي جميعها من بناء هؤلاء المساجين.. المباني الحكومية والكنائس والطرق والجسور وعنابر القمح وأرصفة السفن في «سيركل كاي»، إلى جانب بيت الحاكم الذي يطل على مبنى الأوبرا ويقع ضمن أجمل حدائق المدينة، «بوتانيك غاردن».

 

منذ سنوات، الحاكم لهذه المدينة وكذلك لولاية نيو ساوث ويلز امرأة من أصول لبنانية هي ماري بشير التي ولدت عام 1930 بالقرب من سيدني لعائلة هاجرت من لبنان. وهي الوحيدة من أصول لبنانية التي تحتل هذا المنصب. وكغيرها من اللبنانيين الذين ولدوا في هذه القارة البعيدة عن لبنان، عملت بشير طبيبة نفسية لسنوات عديدة، وقد ساهمت مساهمة كبيرة في إيواء ضحايا المجازر الكمبودية التي ارتكبها الخمير الحمر، والاهتمام بهم، وهي في أستراليا من أشد المدافعين عن حقوق المهاجرين حاليا.

 

لم تعد سيدني اليوم تلك المدينة التي كانت تضم عدة بيوت على روابيها الكثيرة. والبيوت التي كانت تطل على خلجانها، هي اليوم لا تحصى كما النمل. كبرت الأحياء ونمت الطرقات والأبنية، وكبر وسطها بحيث بات يحاكي كثيرا وسط نيويورك الأميركية. لكن مع ذلك، فالمدينة فيها شيء من الريف، وهي السمة التي تظهر بداية على سكان كل أستراليا وليس سكان سيدني فقط. تملك سيدني، خصوصا، في وسطها التجاري والمالي إيقاع مدينة غربية، لما لا، هي بالأساس بنيت لتحاكي نمط الحياة الغربية، مبتعدة عن الأنماط القريبة لها مثل طوكيو أو بكين أو جاكرتا.. بنيت لتكون عاصمة للغرب هناك في البعيد البعيد؟

 

غير أن المدينة التي تمتد على مدى النظر، لا يعد وسطها المالي كبيرا جدا، فقط ثلاثة شوارع رئيسية هي «جورج» و«يورك» و«بِت»، هي التي تمتد نزولا من «تاون هول» مرورا بمبنى الملكة فيكتوريا وحتى «سيركل كاي» والصخرة الكبيرة التي يمر من فوقها جسر هاربور الشاهق الارتفاع، الذي يعتبر الصعود إليه من المغامرات الجميلة لزوار المدينة. لكنه مع الأسف لم يعد مجانيا؛ إذ تكلف رحلة من أربع ساعات للصعود والنزول نحو 300 يورو. لكن الجسر بالحقيقة ليس هو المهم في هذه المنطقة، بل الحي الذي يمر الجسر من فوقه وهو حي المستودع الذي هو أول مكان بني في سيدني عام 1788، وهو اليوم يعج بالمطاعم العالمية والفنادق وبعض المتاجر القديمة الخاصة بمستلزمات البحارة إلى جانب بعض المتاجر الصغيرة التي تبيع التحف واللوحات، إلى جانب سوق يومية شعبية تباع فيها أشياء وبضائع من كل أنحاء العالم. أما «سيركل كاي» التي تضم محطة للمترو، فهي تضم إلى جانب ذلك خمسة أرصفة بحرية لسفن النزهات وكذلك للسفن المستخدمة في المواصلات بين أحياء المدينة الكبيرة. في حين تتجمع على اليمين المؤدي إلى مبنى الأوبرا عدة مطاعم ومقاه إلى جانب أهم غاليري في سيدني لبيع الفن التقليدي الذي نجومه هم السكان الأصليون لأستراليا، وهؤلاء يحضر فنهم بكثافة في كل شيء في أستراليا، وسيدني تحديدا، إلا أن أعدادهم تتناقص في المدينة بحيث لا يتجاوز عددهم اليوم ثمانية آلاف نسمة من أصل خمسة ملايين نسمة.. وهذا بسبب السياسات الاستعمارية التي تعاملت معهم بقسوة في ما مضى، وهي اليوم تحاول إدخالهم إلى الحياة العامة والمعاصرة.

 

من ضمن المعالم المميزة في هذه المدينة، لا بد من زيارة مبنى الملكة فيكتوريا، وهو من أقدم المراكز التجارية في أستراليا حيث بناه عام 1898 المهندس المعماري جورج ماكراي واستخدم فيه غالبية الحرفيين الذين كانوا في ذلك الوقت عاطلين عن العمل. كان يفترض أن يكون هذا المبنى حكوميا، فهو من الناحية المعمارية يمثل ذروة الأبهة والفخامة الغربية، وقد استخدم بوصفه مبنى حكوميا حتى عام 1959 حين بدأت الحكومة تتذمر من التكلفة العالية لصيانته. وبالفعل فقد اقتطعت منه أجزاء لتأجيرها لبعض المحال الحرفية الصغيرة التي لا تستدعي إقبالا كبيرا لكي لا يهلك المبنى، لكنه مع ذلك هلك وكان مهددا بالهدم. لكن شركة خاصة استثمرته عام 1984 لمدة 99 عاما بحسب قوانين الاستثمار الإنجليزية وقامت بترميمه بتكلفة وصلت إلى نحو ثمانين مليون دولار، واليوم تشغله أفخم المحال التجارية والعلامات التجارية الكبرى عالميا. يمكن لزائر هذا المبنى أن يلاحظ جمال الهندسة التي اتسمت بها فترة الملكة فيكتوريا، فإضافة إلى العلو والفخامة، هناك القباب المزخرفة بالسيراميك والأحجار الكريمة، وإلى جانب ذلك يضم المبنى تحفتين فريدتين من نوعهما في العالم وهما ساعتان تتدليان من سقفه، لكنها لا تشيران فقط إلى الوقت؛ بل إلى الاتجاهات، وكذلك إلى سرعة الرياح ووجهات المراكب البحرية القديمة طبعا. وليس ببعيد عن هذا الصرح المعماري والتجاري الجميل، يمكن لمحبي المغامرة تناول طعامهم في برج سيدني الذي يقدم وجبة غذاء مفتوحة بخمسين دولارا للشخص. من علوه الشاهق، يمكن لمرتاديه الاستمتاع بالنظر للمدينة من علو لا يمكن توفره بسهولة في كثير من المدن. على ارتفاع 360 مترا، يقع «مطعم 360» الذي يؤمن وجبة من المطبخ العالمي بكل تشكيلاته المميزة.

 

من مبنى الملكة فيكتوريا، يسهل الوصول إلى ميناء آخر في المدينة هو «دارلينغ هاربور» وهو ميناء قديم لم يعد يستعمل سوى لسفن المواصلات الصغيرة وبعض السفن السياحية المتوسطة الحجم. لكن الميناء يحتوي على متحف بحري يضم العديد من القطع البحرية القديمة وبعض السفن التاريخية إلى جانب قطع بحرية شاركت في الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية وغواصة واحدة قديمة أيضا مفتوحة للسياح. ويضم رصيف هذا الميناء أشهر المطاعم الخاصة بثمار البحر والأسماك في المدينة، كما يضم الحديقة الصينية التي قدمت هدية من قبل الصين لأستراليا التي تعتبر الجالية الصينية فيها من أكبر الجاليات إن لم تكن أكبرها. وليس ببعيد عن هذا المكان، يمكن زيارة السوق الصينية أو «تشاينا تاون» التي هي الأكبر في أستراليا، وفيها يمكن ببساطة الاستغناء عن التحدث بالإنجليزية لمن يجيد الصينية. السوق التي تمتد لمسافة مائتين متر وتكتظ فيها المحال والمطاعم والمقاهي وغيرها، هي صين صغيرة في هذه المدينة الواسعة. لا تني تتحول بفضل الحراك الاقتصادي والاجتماعي الكبير للمدينة إلى مكان للقاء خصوصا على طاولات مطاعمها التي تقدم الأطباق المحلية الصينية من كل المناطق.

 

على المقلب الآخر من سيدني، تتجمع بعض الأحياء البورجوازية الصغيرة، خاصة في المنطقة التي تحولت بفضل وجود شاطئ الباندا، أشهر شواطئ سيدني، إلى منطقة للفيلات والبيوت الكبيرة والغالية الثمن. والضواحي الغنية، التي تكثر في المدن الأسترالية، كما في أي مكان بالعالم، هي المناطق التي تلتصق بالمدينة ولا تبتعد عنها كثيرا. فالبيوت الغالية جدا، بحيث لا يقل ثمن البيت الواحد في هذه الضواحي عن مليوني دولار، أصبحت مع الوقت تفرز المدينة اجتماعيا وثقافيا. ومع خمسة ملايين مقيم في المدينة، يكاد السكن اليوم يتحول إلى معضلة حقيقية للطبقات الوسطى والفقيرة التي تزداد دائرتها اتساعا.

 

كان لا بد لي عند زيارتي هذه المدينة.. الكبيرة والجميلة، تأمين لقاء مع وديع سعادة الشاعر اللبناني الذي غادر لبنان في منتصف الثمانينات إلى سيدني. وديع الذي لم تنقطع علاقته لا بوطنه ولا بالثقافة العربية، يعد من أبرز شعراء الحداثة العربية، وهو كذلك من أبرز الوجوه الثقافية العربية في المدينة. كانت زيارة وديع أحد أهم الأشياء التي فعلتها في هذه المدينة رغم أن الوصول إلى بيته في المدينة استغرق أكثر من ساعة في القطار.

 

لا تترك سيدني في نفس زائرها سوى أحاسيس متضاربة بين الإيجابية والسلبية؛ فالمدينة جميلة جدا إن كان بطرقاتها وتنظيمها أو حتى بحدائقها الكثيرة ومبانيها التاريخية الرائعة. لكنها مدينة تقل فيها الفرص كلما ازداد اتساعها الأفقي. ولكي يتمكن الزائر من الاستمتاع بكل شيء، ما عليه إلا أن يقرر المكوث فيها لعدة أيام فقط لا لمدى الحياة.