فاس يزورها السياح للماضي والحاضر
كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن «المدن رائحة»، وأن كل مدينة لا تُعرف برائحتها «لا يعول على ذكراها»، وهكذا، فإذا كان لموسكو رائحة النقانق، وباريس رائحة الخبز الطازج والأجبان، ودمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة، وتونس رائحة مسك الليل والملح، وبيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون، فإن للرباط رائحة الحناء والبخور والعسل. لا ندري لمَ أغفل محمود درويش ذكر فاس. لو كان ذكرها لتحدث عن رائحتها، مقرونة بعبق التاريخ وأسماء العظماء والعلماء الذين ولدوا، مروا أو دفنوا بها: فاس، حيث «التاريخ ينز من الجدران، يطلع من النوافذ، يمسكنا بأيدينا ويسير أمامنا»، كما يقول الشاعر السوري أدونيس. قبل أدونيس، تغنّى ويتغنى المغاربة كثيرا بفاس، مُرَددين «فاس.. والكلّ في فاس».
وتعتبر فاس، اليوم، من بين أهم وأجمل مدن المغرب شمال أفريقيا، إلى درجة شبهها البعض بـ«أثينا» اليونانية. وهي من المدن القليلة التي تبيع للسياح والزائرين: التاريخ والحاضر. يأتي إليها السياح من أجل المآثر، وكذلك من أجل أمسياتها وسهراتها وأكلاتها وصناعتها التقليدية. وهي توجد في سهل «سايس» الغني بمناظره الطبيعية وخيراته الفلاحية، وتبعد عن مكناس بنحو 50 كيلومترا، وعن مدينة الرباط بنحو 170 كيلومترا. تأسست فاس سنة 809 للميلاد (182 للهجرة)، قبل أكثر من 12 قرنا، وشكل هذا التأسيس بداية للحديث عن تاريخ الدولة المغربية، خاصة أنها أول عاصمة عرفها البلد. وترتبط بداية التأريخ لمدينة فاس بحكاية هروب إدريس الأكبر من المشرق العربي ووصوله إلى منطقة «وليلي»، حيث احتضنته القبائل الأمازيغية.
وتذكر بعض الكتابات التاريخية أنه «بدخول المغرب تحت حكم الأدارسة ظهرت بوادر انفصال هذا الإقليم عن الخلافة بالمشرق»، ولذلك اعتبرت دولة الأدارسة أول دولة إسلامية تظهر بالغرب الإسلامي، وتنسب إلى إدريس بن عبد الله المحض العلوي الهاشمي، الذي «حل بالمغرب الأقصى فارا من موقعة (فخ) قرب مكة (786 للميلاد)»، فـ«استقر بمدينة وليلي حيث احتضنته قبيلة (آوربة) الأمازيغية ودعمته حتى أنشأ دولته»، و«تمكن من ضم كل من منطقة تامسنا، وفزاز ثم تلمسان»، قبل أن يتم اغتياله بـ«مكيدة دبرها الخليفة العباسي هارون الرشيد»، ليبايع المغاربة ابنه إدريس الثاني، بعد بلوغه سن الثانية عشرة، خلفا لوالده.
ويستعيد عبد الرفيع جواهري، الشاعر المغربي (الفاسي المولد)، بعضا من تاريخ فاس، في ديوانه «كأني أفيق»، تحت عنوان «قارورة عطر ابن جرير»، فيقول: «كأني أراك، تلفين إدريس حين أتى هاربا، في حرير دعاك. وإني أراك، تزفين كنزة في الهودج المغربي». كما يستعيد جواهري، في نفس القصيدة، حكاية اغتيال إدريس الأول على يد سليمان بن جرير الشماخ، حيث نقرأ: فغافلك ابن جرير بقارورة العطر يا سيد العطر خبأ موتك في الطيب، ثم سقاك ويرى عدد من المتتبعين لتاريخ المغرب أن حكاية الوئام الأبدي بين العرب والأمازيغ، على أرض المغرب، قد انطلقت عند لحظة تأسيس دولة الأدارسة وبناء مدينة فاس، التي أسسها عربي وبناها الأمازيغ، وسكنها الأندلسيون والقيروانيون والأفارقة والمسيحيون واليهود، ولذلك اعتبرت، على مدى تاريخها، مدينة انفتاح وتعايش.
ولا تتفق الكتابات التاريخية على رأي واحد بصدد الأصل في تسمية مدينة فاس، بهذا الاسم. ويرجح بعض المؤرخين أن تعود التسمية إلى «الفأس»، الأداة التي استعملت في حفر أساساتها. وإلى سؤال التسمية، تتساءل بعض الكتابات التاريخية إن كان إدريس الثاني هو مؤسس فاس، أم إن التأسيس كان من طرف والده إدريس الأكبر. وفيما يتواصل الجدل بصدد أصل التسمية، ينتهي عدد من الكتابات إلى القول إن البحث التاريخي الحديث يذهب إلى أن إدريس الثاني إنما كان مؤسسا لمدينة ثانية تحاذي المدينة الأولى، التي أطلقها والده، وهي عدوة القرويين التي استقر بها قادمون من مدينة القيروان. وتعتبر فاس، اليوم، ثالث أكبر مدن المغرب، وهي، إلى جانب مكناس والرباط ومراكش، واحدة من المدن الأربع العتيقة بالمغرب. ويحسب لها أنها ظلت محافظة على نمطها العتيق، من حيث أزقتها وبناياتها وحرفها، ولذلك يردد عشاقها وأهلها أن تاريخ البلد انطلق من فاس وإليها يعود.
وتنقسم فاس إلى ثلاثة أقسام: فاس البالي وهي المدينة القديمة، وفاس الجديد وقد بنيت في القرن الثالث عشر الميلادي، خلال فترة حكم أسرة المرينيين، ما بين 1269 للميلاد، وهو تاريخ إطاحتهم بأسرة الموحدين، و1465 للميلاد، وهو التاريخ الذي أطاح بهم فيه الوطاسيون، ثم المدينة الجديدة التي بناها الفرنسيون إبان فترة الاستعمار، الذي عمر في المغرب في الفترة ما بين 1912 و1956. ويعتبر عهد المرينيين أزهى مراحل تطور مدينة فاس، إذ قاموا ببناء فاس الجديد، وتحصين المدينة بسور وتخصيصها بمسجد كبير وأحياء سكنية وقصور ومدارس ومارستانات وحدائق.
ومن بين أبرز ما تشتهر به مدينة فاس جامع القرويين الذي بني عام 857 للميلاد، (245 للهجرة) على يد فاطمة أم البنين الفهرية، التي يقال إنها وهبت كل ما ورثته لبناء الجامع، قبل أن يعمل أهل المدينة وحكام المغرب، على مدى التاريخ، على توسيع المسجد وترميمه والقيام بشؤونه. وتعد صومعة المسجد أقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي، كما تعتبر جامعة القرويين، التي بنيت كمؤسسة تعليمية تابعة لجامع القرويين، أقدم جامعة في العالم، وقد تخرج فيها ودرّس بها الكثير من العلماء والمفكرين، أمثال موسى بن ميمون، وابن البنا المراكشي، وابن عربي، وابن رشد، والشريف الإدريسي، وابن زهر، وابن آجروم. ولذلك اشتهرت فاس كعاصمة علمية وروحية للمغرب، وشكلت، على مدى تاريخها، مركزا دينيا وعلميا في شمال وغرب أفريقيا.
وتتميز فاس بمعالمها الأثرية التي تؤرخ لتاريخها وحضارتها، من أهمها الأسوار والأبواب بأقواسها ونقوشها. وداخل الأسوار، تتميز المدينة القديمة بوجود بنايات أصيلة ومستشفيات ومساجد وزوايا ومدارس، تعكس تطور تقنيات البناء ومهارات الصناع التقليديين والبنائين، على مدى أكثر من 12 قرنا من تاريخ المدينة، وهي جميعا أمكنة تستهوي الزوار والسياح. وصنفت فاس كتراث إنساني عالمي منذ عام 1981. والمثير في مدينتها العتيقة أن عرض الأزقة فيها لا يتجاوز المتر ونصف المتر، ولذلك لا تستطيع السيارات، مهما كان حجمها، اختراق الأزقة، مما يفرض على السكان والزوار قطع المسافات لقضاء مصالحهم سيرا على الأقدام، أو على ظهور الحمير، أحيانا. وتعرف فاس بعشق أهلها لموسيقى الملحون، كما تشتهر، اليوم، بمهرجاناتها، التي يبقى أشهرها مهرجان الموسيقى الروحية العالمية، الذي ينظم خلال شهر يونيو (حزيران) من كل سنة، كما تعرف بمصنوعاتها التقليدية، خاصة الأزياء التقليدية والمصنوعات الجلدية والخزفية والنحاسية، التي تبرز أصالة وروعة المنتوج التقليدي للمدينة، التي تلخص جانبا من تاريخ وحضارة هذه المدينة الغارقة في التاريخ.
وتشتهر فاس بنكهة مطبخها، حيث تتمتع المنطقة بشهرة تتعدى حدودها بفضل تنوع أطباقها، التي ترضي كل الأذواق، ناهيك عن الحفاوة التي يشتهر بها سكان المنطقة. ومن الأطباق التي تميز منطقة فاس، نذكر الطاجين والكسكس والحريرة والمشويات والبسطيلة والحلويات. واستطاعت فاس، منذ تأسيسها، إلى اليوم، أن تجسد مثالا للمدينة ذات الحدائق الفاتنة الجمال، سواء على مستوى الفضاءات الخضراء أو الحدائق التي اعتبرت جزءا أساسيا من المنزل الفاسي، وبالتالي مثلت الفضاء الأمثل للاستراحة بالنسبة للعائلات الفاسية، على مر العصور. ويوجد بمنطقة فاس عدد من المواقع الاستشفائية الطبيعية، مثل حامة «مولاي يعقوب» ومنتجع «سيدي احرازم»، وهما موقعان يشكلان مصدر جذب لعدد كبير من المغاربة والأجانب ممن يضربون عصفورين بحجر واحد: الاستجمام في منطقة فاس والاستشفاء من بعض الأمراض، خاصة الجلدية منها، إلى درجة تحولت معها هذه المواقع إلى موضوع لأمثلة يتناقلها المغاربة، من قبيل (بارد وسخون آمولاي يعقوب). وتتوفر فاس على بنية استقبال مهمة، تلبي انتظارات الزوار، سواء تعلق الأمر بالمواصلات أو الفنادق ودور الضيافة، فضلا عن المتطلبات التي ترافق حسن تنظيم وبرمجة المسارات السياحية، ولذلك تعتبر، اليوم، من أهم الوجهات السياحية في المغرب، وبالتالي فهي نادرا ما تغيب من مفكرة وبرنامج الزيارة الخاص بالسياح.