قصور مراكش كنوز لا تقدر بثمن
المهتمون والعارفون بتاريخ مراكش يرون أن الفضل الكبير في خيار التوجه السياحي للمدينة الحمراء ساهم فيه، بشكل خاص، تاريخها الذي يشهد عليه عدد لا يكاد يحصى من الأبنية الأثرية التي توفر للسائح فرصة التعرف على حضارة تختصر جانبا كبيرا من تاريخ مدينة عرف المغرب باسمها (مراكش) على مدى قرون طويلة. أوضاع التراث المادي واللامادي ليست على ما يرام: هذه حقيقة لم تعد تخفى على أحد. واليوم، يبدو أن المسؤولين عن القطاع السياحي في مراكش، بشكل خاص، والمغرب، بشكل عام، اقتنعوا بحقيقة أنه لا يكفي إنشاء مزيد من الفنادق لكي تنال المدينة الحمراء رضا السياح، الذين يبحثون عن ما يميز هذا البلد عن ذاك، لذلك صرت تجدهم يحاولون استدراك ما فات بالعمل على تقوية بنية الاستقبال في معناها الواسع، والاهتمام بالجانب الثقافي، من خلال إصلاح الأسوار والبنايات التاريخية والساحات الشهيرة، لمواكبة الحركية السياحية التي تشهدها المدينة.
وتبدو مراكش أكثر المدن المغربية التي تطرح فيها الأسئلة حول واقع البنايات التاريخية، وذلك نظرا لقيمتها الحضارية على مستوى النسيج التاريخي للمدينة، والإهمال الذي طالها، تحت ضغط التحولات المتسارعة التي عاشتها والطفرة العقارية التي عرفتها خلال السنوات الأخيرة. ويعول المسؤولون على أن يشمل برنامج العناية بالمآثر التاريخية عددا من القصور والمتاحف والمعالم التاريخية بالمدينة، بهدف إدماجها في دورة الاقتصاد الثقافي والسياحي. وإلى الأبواب الكثيرة والأسوار المترامية والمتاحف والحدائق المتعددة، تشكل القصور التاريخية نقطة ضوء كبيرة في خريطة البنايات الأثرية بالمدينة الحمراء. ومن أهم هذه القصور نجد «قصر البديع» و«قصر الباهية» و«قصر المنبهي»، الذي أخذ اليوم اسم «متحف مراكش».
«قصر المنبهي».. متحف مراكش: يعود تاريخ بناء «قصر المنبهي»، الذي صار يحمل اليوم اسم «متحف مراكش»، إلى القرن التاسع عشر، وكان شيده المهدي المنبهي، وزير الدفاع على عهد السلطان مولاي عبد العزيز (1894 - 1908). وكان المنبهي قد عمل، بداية من عام 1901، سفيرا للمغرب لدى كل من ألمانيا وإنجلترا، قبل أن يقود في عام 1903، عبر محاولات متكررة، حملات المخزن (الحكم) ضد الثائر «بوحمارة»، لكن فشله في مهمته أفقده مكانته وحظوته لدى السلطان، وحين سيغادر مراكش في اتجاه طنجة، التي مات بها عام 1941، سيتحول القصر إلى ملكية صهره التهامي الكلاوي، باشا مراكش الشهير. وبعد استقلال المغرب، عام 1956، سيتحول القصر إلى ملكية الدولة المغربية، حيث سيحتضن أول مدرسة للبنات بمدينة مراكش. لكن القصر، نظرا لعدم الاعتناء به، سيفقد توهجه، لتغلق أبوابه سنوات طويلة، حتى جاءت لحظة تحويله إلى متحف.
يتميز قصر المنبهي بأنه شيد على نمط البنايات الحضرية المغربية على مساحة 2000 متر مربع، وكانت تنتظم غرفه الأربع حول صحن مكشوف، فضلا عن أنه كان يضم حماما تقليديا ودويرية وإسطبلا. وكان الفناء الرئيسي للقصر، في الأصل، فضاء مفتوحا يضم أشجارا مثمرة تنتظم حولها غرفه الأربع، بينها غرفتان متقابلتان، فيما كانت الأشكال المتنوعة من زليج وجبص وخشب تعكس أصالة وفتنة الفن المعماري المغربي الخالص. ومع تحويل القصر إلى متحف، تمت تغطية الصحن المكشوف، حيث زين بثريا كبيرة يبلغ وزنها 1200 كيلوغرام. وإذا كان الحمام التقليدي يؤرخ لجزء من أسرار البيوت والقصور والمساكن المغربية فيما سبق من تاريخ البلد، فإن الدويرية تتميز بأنها كانت تضم مطابخ القصر. ويقوم المتحف في شكله وهندسته على بهو ومقهى ومكتبة تنفتح على باب تتصدره لوحة رخامية تؤرخ لتاريخ افتتاح المتحف، مع صورة تفصح عن ما بالداخل من روعة وجمال ونقوش وألوان.
وبعد أن يجد الزائر نفسه مأخوذا بما يؤرخ للفروسية العربية، من خلال بندقية تقليدية وسرج تقليدي بخيوط ذهبية وفضية يعود تاريخهما إلى نهاية القرن التاسع عشر، سيكون عليه أن يتهيأ لساعات من التيه بين تفاصيل معروضات المتحف وروعة المكان. وحتى يأخذ الزائر فرصته كاملة في الجمع بين بهاء المشاهدة ومضمون ما يُعرض تقترح عليه جدادات تعريفية خاصة، يتعرف من خلالها على تاريخ وشكل كل لون فني معروض. والواقع أن «متحف مراكش»، قبل أن يكون فضاء لعرض التحف، هو في الأصل وواقع الحال، معرض مستقل في حد ذاته، حيث نجول مع زخرفة وألوان تنقلنا لثقافة تعرف بالصانع التقليدي والفن المغربي، ويمكن القول إنه لوحة رسمت حيطانا وجبسا وخشبا خلال القرن التاسع عشر. الوصول إلى «متحف مراكش» غالبا ما يتم عبر الأزقة الملتوية التي قد تنطلق بك من ساحة جامع الفنا، مع ما يحيط بها من تحف أثرية تتجاور في المكان وتقترب إلى بعضها بعضا على صعيد الغنى الثقافي والمضمون الحضاري، كـ«دار بلارج» و«مدرسة بن يوسف» على بعد خطوات. يشهد «قصر البديع» على منجزات وانتصارات الأسرة السعدية، التي حكمت المغرب في الفترة ما بين 1554 و1659. وقد شرع في بناء هذا القصر عام 1578، مع بداية فترة حكم أحمد المنصور الذهبي (1578 -1603)، وذلك أشهرا قليلة بعد انتصار الجيش المغربي على الجيش البرتغالي في معركة «وادي المخازن» الشهيرة.
وتذكر كتابات المؤرخين أنه عندما توفي عبد الله الغالب السعدي، أحد ملوك الأسرة السعدية، عام 1574، تولى ابنه محمد المتوكل مقاليد الحكم، وكان فظا مستبدا ظالما، قتل اثنين من إخوته عند وصوله إلى الحكم، وأمر بسجن آخر، فكرهته الرعية، فرأى عمه عبد الملك أنه أولى بالملك من ابن أخيه، فأضمر المتوكل الفتك بعميه عبد الملك وأحمد، ففرا منه مستنجدين بالعثمانيين، الذين كانوا موجودين بالجزائر، فاستطاعا الانتصار على المتوكل، الشيء الذي دفعه، هو الآخر، إلى الاستنجاد بالملك البرتغالي دون سيباستيان، حتى يساعده على استرداد ملكه. ويوم 4 أغسطس (آب) 1578، حين بدأ القتال في سهل وادي المخازن بالشمال الغربي للمغرب، أصيب عبد المالك بمرض أقعده في الفراش، وقيل إن أحد الخدم، المحسوبين على المتوكل، دس له سما في طعامه. وتنقل بعض المصادر التاريخية أن عبد المالك كان أوصى، وهو على فراش المرض، إن مات، أن يتم كتمان الخبر إلى حين الانتهاء من القتال، حتى لا يؤثر ذلك على معنويات الجنود المغاربة. وهو ما وقع، إذ توفي، قبل انتهاء المعركة، ليعمل رجاله بوصيته، فتكتموا على الخبر. وحين بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق للجيش المغربي، حاول البرتغاليون الهرب من أرض المعركة، فوجدوا أن جسر «وادي المخازن» قد دمر تماما فألقى الجنود ومعهم سيباستيان والمتوكل بأنفسهم في النهر، فقضوا جميعا غرقا، أما الباقون فقتلوا في ميدان المعركة أو أسروا. وحيث إن ثلاثة ملوك لقوا حتفهم في المعركة، وهم عبد المالك وسيباستيان والمتوكل، فقد اشتهرت المعركة بـ«معركة الملوك الثلاثة».
وتشير بعض الكتابات التاريخية إلى أن أحمد المنصور الذهبي جلب لبناء «قصر البديع» وزخرفته أمهر الصناع التقليديين والمهندسين المغاربة والأجانب، حتى إن بعض المؤرخين والجغرافيين القدامى اعتبروه من عجائب الدنيا، في زمنه. ويقال إنه سمي بـ«البديع» لأنه ليس له مثيل، باعتباره تحفة عمرانية ومعجزة هندسية، لا تزال تشهد أطلالها برونق المعمار في عهد سلالة السعديين. كما تذكر الكتابات التاريخية أن عملية بناء «قصر البديع» استمرت 16 سنة، وأن تصميمه العام تميز بتوزيع متناسق للبنايات حول ساحة مستطيلة الشكل، يتوسطها صهريج كبير، مع أربعة صهاريج أخرى جانبية تتخللها أربع حدائق، مع كثرة الزخارف وتنوع المواد المستعملة كالرخام والتيجان والأعمدة المكسوة بأوراق الذهب والزليج المتعدد الألوان والخشب المنقوش والمصبوغ والجبس. كما تجمع هذه الكتابات على تعرض هذه المعلمة للهدم، سنة 1696، بعد أن عمد المولى إسماعيل (1645 - 1727) إلى نقل العناصر المستخدمة في تزيينها إلى مكناس، لتدخل في زخرفة البنايات التي تم بناؤها في هذه المدينة التي اتخذها عاصمة لملكه.
واليوم، شتان بين ما تنقله كتب التاريخ وحالة الخراب التي طالت «قصر البديع»، في وضعيته الحالية. لذلك لا يفعل زائره أكثر من العودة إلى الماضي البهي وما خلدته الكتابات التاريخية، من جهة أنه كان ينتظم حول ساحة مركزية كبرى تتوسطها بركة مائية كبيرة تتوفر على نافورة، وبجنباتها روضتان مغروستان بالأشجار والزهور وصهاريج مائية ذات حجم أصغر، وعلى الجنبات الطويلة للساحة تمتد عدة أجنحة مستطيلة تنفتح بواسطة أقواس، حيث برزت التأثيرات المعمارية الأجنبية، متجسدة من خلال تصميمه الأندلسي الشكل، حيث الأجنحة المحورية مستوحاة من ساحة الأسود بغرناطة، فيما يأخذ نظام البرك والقنوات المائية داخل القاعات نموذج قصر الحمراء بغرناطة. يقع «قصر الباهية» في عمق المدينة القديمة، وقد شيد في القرن التاسع عشر من طرف أحمد بن موسى بن أحمد السملالي، الحاجب القوي في مغرب القرن التاسع عشر، خاصة في عهد السلطان مولاي الحسن الأول (1873 - 1894).
وتربط الكتابات التاريخية «قصر الباهية» باسم «الباهية»، زوجة الحاجب، الذي توفي عام 1900، والذي اشتهر بلقب «باحماد»، والذي يتردد أنه بنى «قصر الباهية» حتى يكون دليل مودة وحب، في سيمفونية امتزجت ضمنها، برأي البعض، حكايات العشق بالهندسة، كما توحدت عبرها المشاعر بالزخارف فأعطت صورة مميزة عن عمق الحضارة المغربية في بداية القرن العشرين. وتذكر بعض الكتابات أن «باحماد» قد جلب أمهر الصناع والحرفيين المغاربة للاشتغال في البناء والزخرفة، فيما يرى عدد من المهتمين بتاريخ مراكش أن «قصر الباهية» إن كان قطعة فنية بهية المنظر، وتحفة معمارية تفيض بتجلياتها الحضارية، فهو، قبل كل هذا وبعده، وثيقة تاريخية تطوي في مضامينها تقاليد أهل مراكش وأنماط عيشهم، كما تسمح بإعادة تركيب صورة المرأة المغربية آنذاك، ودورها في الحياة الخاصة والعامة. ونظرا لعلاقة القصر بالسيدة التي أخذ اسمها يرى البعض في «الباهية» مثالا جميلا للأنوثة المغربية، وتأكيدا لافتا لمدى تأثير الحب على المعمار المراكشي، وتراوحه، في بعض الأحيان، بين ثنائية العشق والسلطة.