ترافنيك عاصمة البوسنية تعلم السياح أصول الضيافة
لا تزدحم الحقب والأحداث التاريخية في مدينة كما تزدحم في ترافنيك (149 كيلومترا جنوب غربي سراييفو)، فهنا تاريخ عريق يعود إلى أكثر من ألف عام. وهنا الآثار البوغميلية، والرومانية، والمملكة البوسنية، والآثار العثمانية. وهنا قلعة الملك ترفتكو الأول، ومسجد السلطان محمد الفاتح. وهنا شلالات ياييتسا، وجبال فلاشيتش، والنهر الأزرق. وهنا مهرجان أياتوفيتسا، وهنا عاش ومات وكتب رواياته إيفو أندريتش، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1961... هنا موزاييك فريد، وكوكتال عجيب، وبانوراما ساحرة، هنا ترافنيك.
ترافنيك مدينة سياحية بامتياز، ففيها جبال فلاشيتش، حيث تصنع أشهر أنواع الجبن المعروف باسم «ترافنيتشكي سير»، وهو من أشهر أنواع الجبن في البلقان، بل في العالم، وهو من الأنواع المتوفرة على مائدة البيت الأبيض، وأشهر المطاعم في إيطاليا الغنية بالأجبان، وألمانيا، والسويد. وفي ترافنيك منحدرات فلاشيتش، أحد أشهر أماكن التزلج في أوروبا.
عندما تصل إلى ترافنيك، وقبل أن تغطس في أحيائها المتواضعة وأزقتها الضيقة التي تذكرك بالأحياء العتيقة في المدن التاريخية بالمدن العربية، مكة والمدينة والقدس والقيروان وطشقند وإسطنبول، تتراءى لك قلعة الملك تفرتكو الأول، أحد ملوك البوسنة، قبل أن تصبح ولاية عثمانية إسلامية، وهي تراث ملكي بوسنوي شيد فيها السلطان محمد الفاتح مسجده الذي يعرف باسمه حتى اليوم. وهي قلعة جديرة بالزيارة للاطلاع على نمط الحياة الملكية في البوسنة قبل أكثر من 600 عام، وإلى جانب مكاتب الملك والحاشية وغرف نومه وإسطبلات خيله وأماكن إقامة زوجاته وقاعة الأفراد هناك قاعة اجتماعات، وسجن، وأحواض سباحة، وينابيع ماء، وجداول وحدائق على الهضبة المطلة على المدينة، وهي أول ما تقع عليه العين عند مدخل المدينة من جهة الشرق.
لا يمكن زيارة ترافنيك دون زيارة ينابيع الماء الأزرق، وهو نهر صغير لكنه متدفق في حيوية، وتبدو عليه حياة الشباب رغم عمره المديد الذي يعود إلى قرون وقرون خلت. وعلى ضفاف النهر الأزرق كما يسمونه في ترافنيك والبوسنة، مطعم مشهور يقدم المشويات بمختلف أنواعها، السمك النهري، واللحوم، والضأن، والأبقار، والدجاج. ويمتاز بمشويات الكباب التي هي الأرخص سعرا في البوسنة كلها تقريبا. وهناك كباب يعرف باسم ترافنيك يختلف عن ذلك الذي يشد إليه الرحال في سراييفو.
وإذا كنت من زوار ترافنيك في الصيف ولا سيما شهر أغسطس (آب) فستدرك الاحتفالية السنوية بذكرى رحيل الكاتب البوسني إيفو أندريتش، الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1961، وستستمع لقراءة بعض من آثاره المختارة بكل اللغات التي ترجمت أعماله إليها، وذلك عن طريق أدباء وشعراء وممثلين وناشطين، ولا سيما مقاطع من روايته «فوق جسر درينا» التي تنبأ فيها بمجازر البوسنة، وروايته «يوميات ترافنيك»، وغيرها. وبالقرب من ترافنيك تقع شلالات ياييتسا. أما إذا زرت ترافنيك في شهر يونيو (حزيران) فبإمكانك مشاهدة أحد أهم المهرجانات الثقافية والشعبية التي يحضرها الآلاف، لإحياء ذكرى عزيزة تعبر عن ارتباط بالتقاليد ووفاء للروح الثقافية التي سكنت المنطقة منذ عدة قرون، إنه مهرجان أياتوفيتسا. عندما ظل أحد العباد يصلي في المكان لمدة 40 يوما للاستسقاء حتى تفجر الماء من مكان صلاته، وأصبح نهرا جاريا حتى اليوم. وتقام في المهرجان عروض للفروسية، والمسرح، والتجارة، والتعارف بغرض الزواج. وإلى جانب كونه مهرجانا ثقافيا شعبيا هو أيضا مهرجان ديني حيث تشرف عليه المشيخة الإسلامية في البوسنة. ويأتي زوار من خارج البوسنة خصيصا لحضور المهرجان، لا سيما من الدول الأوروبية ومن تركيا وإيران وبعض الدول العربية.
وفي ترافنيك الكثير من الفنادق من فئة 3 نجوم، أسعارها رخيصة جدا، ومنها فندق ياييتسا، وفندق دوني فاكوف، وفندق فيتز. وتتوفر في ترافنيك جميع الخدمات من هاتف ومستشفيات وصيدليات وإنترنت ومواصلات وغيرها. كما أن بها أماكن للتسوق، ولا سيما المصنوعات الجلدية وصناعة الأجبان وغيرها.
ومن الناحية التاريخية كان أغلب سكان ترافنيك من البوغميل، وهي كنيسة تقترب معتقداتها من معتقدات القديس أريوس، حيث كانوا يؤمنون بإله واحد، ولا يقولون بنظرية الأقانيم، وهم بذلك يختلفون عن الكاثوليك في روما في ذلك الحين، كما يختلفون عن الأرثوذكس الشرقيين، وكان الفاتيكان يرسل الجيوش وراء الجيوش لحملهم على اعتناق الكاثوليكية، كما كان الصرب الأرثوذكس الذين قدموا للمنطقة في القرن التاسع الميلادي يحاولون من خلال الغزوات المتكررة ضمهم إلى الأرثوذكسية، وتوسيع مملكتهم الفتية التي أخذت في التمدد مع انحسار المد الروماني، ثم الهيمنة البيزنطية، ولا سيما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
لقد تمكن الفاتيكان في القرن الثاني عشر من إخضاع ملك البوسنة، كولين بان، وكانت مدينة زينتسا البوسنية (70 كيلومترا شرق سراييفو) عاصمته، بعد إعلانه الولاء للعرش البابوي، لكنه تبرأ من الكاثوليكية بعد عودة الجيش الكاثوليكي إلى روما. وكتب الكثير من المؤرخين أنه «فعل ذلك لتجنب الحرب، مع جيش لا يترك أي خيار آخر غير الكثلكة أو الحرب، وهو نفس شعار الأرثوذكس في ذلك الحين، وكانت تلك الحروب يطلق عليها «الحروب الصليبية».
في عام 1463م وصل الأتراك إلى البوسنة مرورا بكوسوفو التي فتحوها عام 1389، ثم ما لبثت أن سقطت بلغراد ثم السنجق قبل أن تفتح البوسنة ذراعيها للفاتحين الذين أرسوا أسس حرية العقيدة من خلال الفرمان السطاني المعروف حاليا في البوسنة لدى جميع الطوائف المسيحية وغيرها باسم «عهد نامة»، وهو عهد يحفظ للنصارى حرية العبادة والحفاظ على كنائسهم وعدم إجبارهم على الدخول في الإسلام، وكان ذلك العهد عهدا جديدا لم تشهده المنطقة من قبل، ولذلك دخل الناس في الإسلام أفواجا وفي مقدمتهم البوغميل، والذين يحملون اسم البوشناق اليوم، في حين أن كلمة «بوشناق» تشمل جميع سكان البوسنة، بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم، ولكن ولأسباب سياسية أطلق الكاثوليك اسم «الكروات الكاثوليك»، والأرثوذكس اسم «الصرب الأرثوذكس»، بينما لم تفلح مساعي إطلاق اسم «الأتراك المسلمون» على البوشناق الذين يؤكدون أنهم بوشناق وليسوا أتراكا. وقد استخدم الصرب والكروات مسمى «الأتراك» على البوشناق أثناء الحرب لتبرير إبادتهم، ثم عادوا بعد الحرب للعزف على وتر أكثر مغالطة وهو أن البوشناق ليسوا سوى صرب أو كروات اعتنقوا الإسلام وتركوا دين أجدادهم.
تميز العهد التركي ببناء الجسور وتعبيد الطرق وإقامة المدن، حتى بلغ عدد المدن التي بناها العثمانيون في البوسنة وحدها 30 مدينة، من بينها العاصمة سراييفو، ودوني فاكوف، وبريتشكو، وغيرها. ويشير المؤرخ الصروبكرواتي، بيتر بيتروفيتش نيغوش، إلى ذلك العهد بالقول: «الأتراك كانوا يبنون الطرق والمدارس وأقاموا أكثر من 30 مدينة من بينها سراييفو، وفيشي غراد، ودوني فاكوف وغيرها»، وإن «الأتراك أتوا بالمدنية إلى المنطقة التي كانت تعيش في الظلمات»، و«تعلم البوسنيون وغيرهم اللغات العربية والتركية والفارسية، التي كانت تضاهي، بل تفوق اللغات التي يحرص الناس على تعلمها اليوم، وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية». و«كانت اللغة التركية لغة الإدارة، والعربية لغة العلوم الشرعية، والفارسية لغة الآداب والشعر والنقش والرسم وغيرها».
ظلت البوسنة مزدهرة لمدة 5 قرون من الوجود العثماني، وتحديدا في الفترة بين 1463 و1878. وفي القرن التاسع عشر تغيرت ملامح البوسنة، فقد تم القضاء على اللغة العربية والتركية والفارسية، وأصبح المثقفون بهذه اللغات أميين فجأة، ومن بينهم العلماء، وحيل بين الشعوب التي كانت تتكلم هذه اللغات، ومن بينها البوسنة، وتراث زاخر كتب بالحروف العربية، فالتركية كانت تكتب بالحروف العربية. وبعد إدخال الحروف اللاتينية لم يبق إلا القليل من الناس يجيدون فهم الإنتاج الزاخر في مختلف العلوم بتلك اللغات، وشيئا فشيئا اندثرت وغبرت بعد سالف العظمة.