قد يستغرب البعض وأنت تُعلِمهم أنك مسافر بقصد السياحة إلى اللاذقية في فصل الخريف أو الشتاء، متسائلين ببعض الدهشة: هل تريد السباحة في شاطئها الأزرق أو غيره في الأيام والفصول الباردة؟ ولكن ستزول دهشتهم عندما يعلمون أن اللاذقية، تلك المدينة السورية الساحرة الرابضة على شاطئ المتوسط، التي يطلقون عليها دلالا وغنجا لقب «عروس المتوسط»، مدينة لكل الفصول، فليس بالبحر فقط تعيش اللاذقية وتستقبل زوارها وسياحها، فهي وفي كل شارع ودرب وزقاق منها تنبض بالحياة والتراث والجمال الآسر، هي المدينة التي لا يمكن لزائرها حتى ولو كان قصده السباحة في منتجعاتها والاستجمام على رمال شاطئها الذهبي في فصل الصيف إلا أن يعرج ولو لبضع ساعات على معالمها السياحية داخل المدينة القديمة والحديثة، فكيف الحال والزيارة بقصد التجول بين هذه المعالم ولمدة يوم كامل؟ حيث ستكتشف اللاذقية بعيدا عن البحر والشاطئ والرمال، بسيطة، لنجرب ولنخوض في خضم المدينة ولنتجول بين معالمها الخالدة وساحاتها العريقة، وفي حاراتها وأبنيتها القديمة ومقاهيها التي تجاوز عمر بعضها عشرات السنين، حيث يعبق في كل ركن وزاوية منها رائحة البحر مع روائح أزهار الليمون وحضور الصيادين المنهمكين بالحديث عن غلتهم اليومية من صيد السمك البحري.
* كل الطرق تؤدي إلى اللاذقية
* لأنها المدينة السياحية الأهم بامتياز في خارطة السياحة السورية، ولأنها تعتبر من أكبر وأعرق المدن السورية والمحافظة الساحلية الأولى والأكبر، حيث يفتخر أهلها بأن الهاتف وصل إليهم سنة 1921، أي قبل تسعين عاما، والكهرباء بعد عام واحد فقط في عام 1922، وأن مرفأها البحري من أقدم مرافئ المتوسط، وهو قائم منذ آلاف السنين، ولكن بشكله العصري الحالي تأسس بقانون من الحكومة السورية سنة 1950، أي قبل ستين عاما، ولأنها المدينة التي تقع في أقصى شمال غربي سورية، ولأنها المدينة البحرية التي تجاورها الحدود التركية فكل الطرق البرية والبحرية وحتى الجوية تؤدي إليها ومن كل الجهات، حيث يمكن للسائح أن يصل إليها وعبر طريقين دوليين بريين، الأول للقادم من العاصمة دمشق حيث يمكنه أخذ الطريق المتجه شمالا نحو مدينة حمص، ومن ثم إلى طرطوس، فاللاذقية، وهو طريق رائع وجميل، خصوصا بعد الانطلاق باتجاه الساحل، حيث سيرى السائح من زجاج نوافذ حافلته مناظر طبيعية خلابة على طول الطريق الممتد لنحو 180 كلم، وستستغرق المسافة معه من دمشق إلى اللاذقية، وحسب تعليمات تحديد السرعات للحافلات على الطرق السورية الدولية، نحو أربع ساعات ونصف، فالمسافة بين المدينتين 350 كلم. كما يمكن للسائح القادم من مدينة حلب سلوك الطريق الدولي الجديد (الأوتوستراد) الذي سيوضع بكامله في الخدمة أوائل عام 2011، والذي نفذته شركة «الخرافي» الكويتية بمواصفات عالمية. والطريق يمتد بين المدينتين لنحو 185 كلم ويستغرق نحو ثلاث ساعات من الزمن، ويعتبر من أجمل الطرق السورية حيث تحفه الوديان والتلال والجبال والمناظر الخضراء الرائعة.
كما يمكن للسائح القادم من مدن حمص أو حماة أو تدمر سلوك الطريق الأروع والأجمل والمسمى طريق بيت ياشوط، وهو طريق بحارتين من مدينة حماة وحتى بادية الطريق الجبلي، ليأخذ الطريق شكلا مرتفعا بين الجبال وليعيش معه السائح مناظر بديعة، خصوصا عندما يفتح نوافذ حافلته ستأتيه روائح الزعتر البري وغيره، وسيستغرق معه الوقت نحو ساعتين ونصف من حماة إلى اللاذقية. وهناك الطريق الجبلي الرائع أيضا من مدينة مصياف وحتى اللاذقية، مرورا بمدينة بانياس، وطوله نحو 140 كلم، وسيقطعه السائح في نحو ساعتين. ويمكن للسائح الراغب أن يأتي عبر الجو الهبوط في مطار اللاذقية الدولي (مطار الباسل) قرب قرية حميميم، الذي يبعد عن اللاذقية المدينة جنوبا 15 كلم، وكما أن الطرق البرية تمتاز بروعتها فإن الطرق والخطوط الحديدية التي تصل اللاذقية كذلك، حيث يوجد سكك حديدية تربطها بدمشق وحمص وحلب، ولكن الراكب للقطار ما بين حلب واللاذقية سيعيش ثلاث ساعات من الحلم والخيال، فالقطار يعبر مناطق وأريافا من أجمل ما وهبته الطبيعة، حتى يخال المرء نفسه أنه يعبر الريف الأوروبي بكل روعته.
* الأماكن التي يجدر زيارتها
* وعندما تصل إلى اللاذقية لن يصيبك الملل ولن تستطيع النوم أكثر من ساعات قليلة جدا حتى تتمكن من زيارة معالمها في 24 ساعة بعد نهار طويل جميل دافئ، حتى ولو كنت في عز فصل الشتاء. وإذا ما رغبت في التجول تحت مطرها الغزير المتدفق مع مظلتك فستعيش لدقائق قليلة لحظات شاعرية لأن المطر سيتوقف بعدها وستعود الشمس لتسطع بقوة ومباشرة (هذا هو مطر اللاذقية المدرار للحظات مع برقه ورعده لتسطع الشمس من جديد وكأن شيئا لم يكن - يعلق صديقنا بديع اللاذقاني)، فمنذ دخولك اللاذقية من الجنوب سترافقك شجيرات الهيبسكوس بأزهارها الوردية الزهرية والحمراء تزين منتصف الطريق، وقبل أن تدخل المدينة من ساحاتها الجميلة الأولى التي تدعى دوار الزراعة ستشاهد على يسارك تلك المنشأة المعمارية الضخمة بحدائقها الواسعة وبمبانيها التي رغم حداثة إنشائها قبل ربع قرن فإن بنائيها حرصوا أن تأخذ أشكالا تراثية جميلة. ولن تنتظر طويلا لتعرف أن هذه المنشأة ليست سوى جامعة اللاذقية (تشرين)، حيث تعتبر رمز المدينة العلمي والأكاديمي، وعندما تقطع دوار الزراعة لتصل إلى الساحة الثانية المسماة ساحة اليمن ستشاهد اللاذقية العصرية بجسورها وشوارعها العريضة من شارع الجمهورية الشهير وحتى شارع بوقا الواصل إلى الرمل الشمالي والأزهري ومن ثم إلى الشاطئ الأزرق، لا بد لك أن تتوقف قليلا لتشاهد حي القلعة التاريخي على يسار الساحة، حيث يتوضع على مرتفع من الأرض كانت تقوم عليه قلعة المدينة التي لم يبقَ منها سوى تلتها التي تدل على تاريخها الغابر. وتواصل سيرك لتكتشف اللاذقية الأقدم، حيث ستوصلك قدماك إلى الساحة الأعرق والمسماة «الشيخ ضاهر»، والتي تحفها من كل جوانبها المواقع والمعالم التراثية القديمة، حتى إن البعض يشبهها بساحة المرجة الدمشقية الشهيرة. ومن المواقع التي تتوضع في الساحة هناك جامع العجان الذي يتجاوز عمره ثلاثمائة عام، والأزقة الضيقة التي توصلك إلى معالم المدينة القديمة، وهناك في أحد جوانبها مدرسة التجهيز الأقدم في اللاذقية والمسماة «جول جمال»، والتي افتتحت كمدرسة ثانوية قبل سبعين عاما، حيث تتميز ببنائها الأبيض التراثي الجميل. في ساحة الشيخ ضاهر يمكنك ومن خلال المحلات الشهيرة التي تطل على الساحة تناول أطيب وألذ الكنافة الخشنة التي يتفنن محضرو الحلويات اللاذقانيين بتحضيرها بشكل سجل فقط لهم، لا تشابه غيرها من الكنافة النابلسية وغيرها، وفي عدد من محلاتها يمكنك أيضا أن تشتري نوعا من الحلويات المغلفة المسماة «الجزرية»، والتي يحضرها اللاذقانيون بشكل هرمي جميل. ولا تنسى أيضا أن تشتري القرع المجفف بمذاقه اللذيذ وبخصوصيته اللاذقانية.
هنا في الشيخ ضاهر يمكنك أن تجلس في المقاهي القديمة المتعددة الشعبية، بينما لو مشيت قليلا باتجاه شارع هنانو ستجلس في تلك المقاهي المسماة مقاهي الرصيف، حيث يسجل للاذقية أنها المدينة السورية الأولى التي عرفت هذا النوع من المقاهي والكافيتريات ومنذ نصف قرن وحتى قبل العاصمة دمشق.
من ساحة الشيخ ضاهر يمكنك الانتقال إلى شوارع ودروب المدينة الشهيرة المكتظة بالأوابد المعمارية، هنا سيمكنك التفرغ تماما للتجول ومشاهدة معالم اللاذقية وأبنيتها التاريخية التي يطغى عليها الطراز المعماري العثماني، والذي يسود في المباني التي بنيت قبل الحرب العالمية الأولى بينما يطغى الطراز المعماري الفرنسي على الكثير من المباني الأخرى. ومن الأماكن العريقة هناك الأسواق والحارات القديمة مثل الصليبة والعوينة والطابيات وشارع القوتلي الذي يمكنك أن تتناول في محلاته ألذ حلويات الكرابيج اللاذقانية المغطسة بنوع من الحلوى السائلة المسماة العصلج. ويمكنك شراء الحلاوة بطحينة بأنواع كثيرة تفنن بها حلاونجية اللاذقية كالمطاطة وغيرها.
ويمكنك زيارة ساحة أوغاريت المسماة ساحة السمك، والتي تتفرع منها أزقة قديمة كزقاق البالة وغيره، ولكنك ستحتاج إلى الوقت وأنت تستمتع بالمباني التاريخية التي تزورها، فعليك أن تتوقف لتتأمل بكثير من الاهتمام تلك المباني التي ستزورها، ولتكسب الوقت يمكنك استخدام السيارة في تنقلك من خلال استئجار سيارة عامة عبر مكاتب متخصصة في المدينة أو من خلال ركوب سيارات التاكسي ذات اللون الأصفر والمكتوب عليها «سيارة أجرة»، التي تدور في شوارع وأسواق المدينة على مدى اليوم. ومن هذه المباني التاريخية الهامة: القوس الكبير الذي يقع في منطقة الصليبة، وكان قد بناه سبتموس سفيروس عام 194م، وهناك بالقرب منه أعمدة باخوس ودير الفاروس الذي كان موجودا في الحي الذي حمل اسمه شمال المدينة، واشتهر عبر التاريخ حيث وصفه ابن بطوطة وزاره الشاعر الفيلسوف المعري. وهناك كنيسة مارتقلا في الحي الذي يحمل نفس الاسم بالقرب من ساحة الشيخ ضاهر.
ومن الأماكن التاريخية في اللاذقية أيضا هناك كنيسة اللاتين، وتعتبر من أجمل المباني التي ظهرت في بدايات القرن العشرين، وتتميز بأبراجها القرميدية وتتوضع مقابل مرفأ المدينة في شارع بغداد. وهناك كنيسة السيدة في سوق البازار وتعود للقرن الخامس الميلادي، وكنيسة مار جرجس التي تعود لعام 275م، وكنيسة مار موسى الحبشي التي أعيد بناؤها عام 1845م، ومن معالم اللاذقية هناك الجوامع والمساجد القديمة، ومنها جامع البطرني ويعود للقرون الوسطى ويتوضع وسط المدينة في إحدى زوايا حديقتها العامة. وهناك الجامع الظاهري الكبير، ومسجد القبة، وجامع الأقساطي، وجامع الخشخاش الذي يعود للعصر المملوكي، وجامع المغربي ويتوضع في تل القلعة التاريخي بمكان يطل على المدينة. وهناك جوامع تعود للفترة العثمانية ومنها الريس حمادة التونسي وأرسلان باشا والفتاحي والعوينة والبازار، وهناك الحمامات القديمة ومنها: الحمام الجديد والقيشاني وحمام العوافي، ومن خاناتها القديمة خان الحنطة وإسرب وخان نور الدين.
وفي اللاذقية منازل تقليدية جميلة يمكن زيارتها، ومنها بيت عبد الحميد عجان الذي يعود لأواخر القرن التاسع عشر وتحول حاليا لفندق الشرق التراثي، وهناك مبنى البلدية القديم والبوابات المطلة على سوق الصاغة، ومن الأسواق القديمة التي ما زالت تعج بالحيوية والمتسوقين هناك سوق البازار والموارنة والسوق المقبي والعنابة، ولا يمكن للسائح الزائر للاذقية إلا أن يزور متحف المدينة الوطني الذي يتوضع في مبنى تاريخي جميل مقابل البحر والمرفأ، حيث كان عبارة عن خان عثماني يدعى خان التتن ويتميز بحديقته الكبيرة وأقسامه المتوضعة في طابقين، والتي تضم أهم المكتشفات الأثرية في مواقع اللاذقية وتلالها الأثرية كأوغاريت وجبلة وابن هانئ والبسيط وغيرها.
* المقاهي والفنادق والمطاعم
* وأنت تتجول في اللاذقية لا بد لك أن تستريح لترتشف فنجان قهوة تركيا أو إيطاليا أو فرنسيا أو كأس شاي في مقاهيها، حيث يمكنك الجلوس في المقاهي العريقة المطلة على البحر قرب حديقة المنشية على الكورنيش، والتي يفتخر أصحابها بأنها استضافت أهم المطربين العرب عبر تاريخها مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما، ومنها العصافيري واسبيرو وشناتا الكبير الذي يتوضع على كورنيش البحر بمساحة 1500 متر مربع، والذي عرف كمقهى شعبي للصيادين، كما استضاف منذ تأسيسه قبل في عشرينات القرن المنصرم أهم المطربين العرب، حيث أحيت به أم كلثوم برفقة محمد القصبجي ثلاث حفلات، واستضاف عمالقة المسرح العربي قدموا فيه مسرحياتهم، ومنهم فاطمة رشدي ونجيب الريحاني الذي قدّم مسرحية «كشكش»، كما استضاف يوسف وهبي وأوبرا «كليوباترا» بمشاركة نجميها صالح عبد الحي والفنانة علية فوزي. وهناك مقهى البستان الذي يعتبر أول مقهى رصيف وسط اللاذقية، وكان حتى بدايات تسعينات القرن الماضي يعتبر مقهى الأدباء والمثقفين قبل أن تنتشر مقاهي المثقفين الحديثة كمقهى قصيدة النثر وجدل بيزنطي وفسحة أمل ونزل السرور والحور العتيق وليالي بالاس وغيرها. وهناك فندق ومطعم الكازينو العريق الذي يتميز بمبناه الجميل، والذي يعود إلى منتصف القرن العشرين المنصرم، ويطل مباشرة على البحر في شارع الكورنيش قرب حديقة المنشية. ومن أهم وأجمل الفنادق في مدينة اللاذقية، التي يتوضع بعضها مباشرة على الكورنيش مقابل البحر هناك: ليالي الريفيرا والقصر وهارون والجندول والدولي والرياض والسفراء والنور والنورس وعمر الخيام وزنوبيا ورمسيس وآسيا وسميراميس وكوكب الشرق، وغيرها. ومن المطاعم: الدار والشلال والنادي العائلي والنخيل وأبو يوسف والبترا والربان والبرج والريف والركن الإيطالي واللؤلؤة والقمة، وغيرها.