أعلى

 

 

مطار مدينة «هو شي منه» أقل فخامة وتجهيزاً من المطارين اللذين مررنا بهما في رحلة الوصول آتين من أبو ظبي وبانكوك، ومعظم الطائرات الوافدة يخص شركات فيتنامية وماليزية وتايلندية. عند نقطة التفتيش للوافدين، وجوه فيتنامية دقيقة القسمات، باسمة من دون تكلف. نساء ورجال بزي رسمي، تخالهم موظفي استقبال لحسن معاملتهم الآتين من سياح ورجال أعمال. قاعة الوصول الرئيسة تضيق باللوحات الإعلانية الضخمة: معدات كهربائية، هواتف نقالة، بنوك عالمية، شركات لتأجير السيارات والحافلات. مواطنون يحملون لافتات متنوعة الأحجام واللغات بأسماء الزوار المنتظر وصولهم، جلهم من الأميركيين والأوروبيين. لا شيء يدل على أننا ندخل دولة شيوعية عريقة ذات اقتصاد اشتراكي موجه، تتوجس سلطاتها الأمنية دخول الأجانب إلى أراضيها، فلا تفتيش ولا تدقيق على صرف العملات الأجنبية. صورة واحدة كبيرة الحجم في الصالة الكبرى للزعيم الأسطوري «هو شي منه» الذي سميت سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية باسمه، إثر هزيمة النظام الموالي للغرب، وانسحاب القوات الأميركية من البلاد يوم 30 نيسان (أبريل) عام 1975. في حين بقيت هانوي عاصمة الشمال والدولة، مقراً لقيادة الحزب الشيوعي الحاكم ولمؤسسات الدولة والحكومة وأجهزتها.


 
وتركت سايغون مقراً لمعظم السفارات والبعثات الدولية، وشرعت أبوابها اقتصادياً ومالياً وسياحياً أمام السياح الغربيين، بخاصة الأميركيين الأكثر وفوداً إلى فيتنام. كما فضلها المستثمرون لأسباب عدة، فقد كانت عاصمة الجنوب الرأسمالي، ولطبيعة أهلها الأكثر انفتاحاً وتعوداً على الأجانب ولإتقانهم اللغات الأجنبية. وخلال العقد الماضي بالذات تدفقت رؤوس الأموال والاستثمارات، غربية وشرقية، فبنيت الأبراج والفنادق الفخمة ذات الأسماء المشهورة والأسواق التجارية (المولات)، والمصانع الأجنبية الفرنسية والأميركية والصينية. وعملت الجرافات في إزالة الأحياء من المناطق الفقيرة، فاتسعت الشوارع والميادين والحدائق، بخاصة وسط سايغون، منطقة Dangkhoi، إضافة إلى البواخر السياحية التي تعمل ليل نهار في رحلات بحرية. الواضح أن الفيتاميين لا يقلون ذكاء وهمة ونشاطاً عن الجيران الصينيين، لكنّ الصين استبقت المتغيرات حين استعادت هونغ كونغ من الإنكليز أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، وأبقتها كما كانت بوابة مفتوحة للنشاط الاقتصادي والمالي الدولي من دون أن تفرض عليها القوانين الشيوعية. وها هي سايغون، كما يحلو لسكانها الاسم السابق، بدل اسمها الجديد «هو شي منه»، عنوان آخر للذكاء الآسيوي الذي استوعب مبادئ العولمة والخصخصة التي لا تعترف لا بالحدود ولا بالعقائد، شأن ماليزيا وتايلند وسنغافورة وإندونيسيا.
 
 
 
التأثيرات الفرنسية
 
ساحة Leloi الواسعة وسط سايغون تتوسط حديقة خططت وزينت في شكل رائع. تضم في جوانبها دار الأوبرا وكنيسة كبيرة، هي نسخة مصغرة عن كنيسة «نوتردام» الباريسية وقصر «نورودوم» الرئاسي، هذه الأماكن أبدع المهندسون الفرنسيون في إنشائها إبان الحقبة الاستعمارية. القصر الرئاسي بني عام 1873، وكان قصراً للحاكم الفرنسي. دمر في حقبة الستينات في نزاعات داخلية، فأعاد الأميركيون بناءه وفق الطراز الأميركي. ومن على شرفته أعلن توحيد دولة فيتنام الاشتراكية شمالاً وجنوباً في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1975، يوم اقتحمت الدبابات الشيوعية أسوار القصر الذي ظل مقراً للجنرال «ديفوين فان تيو» الرئيس الجنوبي من 1967 إلى 1975. يخترق سايغون رافد من روافد نهر «الميكونغ»، وتنقسم جغرافياً وطبقياً إلى قسمين: سايغون العاصمة حيث التطور والعمران، «وكانيون» حيث الأحياء المتواضعة والحواري الضيقة الفقيرة بمبانيها وسكانها. ويعتبر «الميكونغ» هبة فيتنام كما النيل هبة مصر، وهو ينبع من أعالي التيبت نزولاً إلى الصين وتايلند ولاوس وكمبوديا، وعندما يصل الأراضي الفيتنامية يتفرع لروافد، قبل أن يصب في بحر الصين، ويكون صالحاً للملاحة ونقل البضائع.


 
يقول لنا الدليل المرافق إن الفنادق والمراكز التجارية والمطاعم تكاد تفتح في شكل متسارع، «المولات» تضم آخر موضة الملابس الأوروبية والعطورات وحقائب السيدات والمعدات الكهربائية والهواتف النقالة، وكذلك مقاهي الرصيف ومطاعم الوجبات السريعة خصوصاً الأميركية منها، وهي بالطبع غالية الثمن. ومن هذه الساحة الواسعة، تتصل شوارع تؤدي إلى ساحات أخرى وميادين متعددة، أو إلى شوارع خلفية ضيقة حيث يفترش الأرصفة نساء ورجال شيوخ وشبان يبيعون المنتوجات والألعاب الرخيصة الثمن، لا بد أنها صينية، في حين تنشغل النساء بتحضير وجبات الطعام المحلية، الشبيهة بالحساء، مع إضافة أنواع من اللحوم المقددة والخضار، فيتجمع الناس خصوصاً عند المساء لتناول الطعام جلوساً على مقاعد شبيهة بكراسي الأطفال عندنا، وهي على كل حال كافية لأحجامهم الصغيرة ولضيق اتساع الأرصفة. طبقتان متمايزتان فوق مساحة ضيقة جغرافياً: طبقة معظمها من الجيل الشاب، بثياب الجينز والموضة الأوروبية الأنيقة، ومظاهر الرفاهية المستجدة واضحة. وجيل أكبر سناً بعض الشيء، من ذوي الياقات البيضاء والبذلات الداكنة، «الآي فون» في يد وفي اليد الأخرى أكياس التبضع وهم من العاملين في الشركات والبنوك الأجنبية. وطبقة متواضعة وأميل إلى الفقر، من خلال ملبسها التقليدي ووجوهها الناحلة، والتي تجتهد في تحصيل لقمة عيشها وبصعوبة. إلا أن البسمة تظل فوق الشفاه من دون افتعال، صفة تجمع بين أفراد الطبقتين، الأغنياء والفقراء، وصفة أخرى هي النشاط والحركة في التعامل مع الزبائن ومحاولة إقناعهم بكل لطف لشراء بضائعهم، أو دعوة لدخول صالة التدليك (الماساج) القريبة لقاء مبالغ زهيدة. حيوية الفيتنامي ونشاطه الدؤوب لافتان، كذلك سلوكه في التعامل مع السياح أو مع رجال الشرطة حيث تنعدم مظاهر العداء بين الطرفين، وتغيب لعبة القط والفأر التي نعرفها في بلادنا، عندما يهرب الباعة ببضائعهم حين تلوح الشرطة في الأفق، خوفاً من مصادرتها، ثم يعودون مع مغادرة رجال الأمن.


 
سياحة الحروب!
 
آثار الحروب وويلاتها تكاد تتلاشى، إلا أنها ما زالت في الذاكرة. وقد نصحنا الدليل المرافق بزيارة موقعين مهمين بالنسبة إلى الشعب الفيتنامي: المتحف الحربي في سايغون ومنطقة الأنفاق. المتحف الحربي مؤلف من أربع طبقات، تحيط به الحدائق الجميلة. وعند المدخل طائرات ودبابات أميركية من غنائم الفيتاميين. طبقة تتضمن صوراً وملصقات تبين دعم شعوب العالم الثالث والهيئات الدولية والأميركية المناهضة للحرب، طبقة تتضمن الدمار الذي لحق بالمدن والقرى وتُعرض فيها أنواع القنابل والأسلحة التي استخدمها الأميركيون. طبقة تظهر الأضرار التي ألحقتها الغازات السامة بالناس والعاهات التي أصيبوا بها. وطبقة أخيرة لرسوم الأطفال المناهضة للحروب. ويتضمن المتحف صورة هي الأصدق تعبيراً، صورة اللقاء الذي عقد عام 1995، أي بعد عقدين من انتهاء الحرب، بين الجنرال فو نغوين جياب القائد العسكري الذي هزم الفرنسيين والأميركيين وروبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي إبان حكم جون كنيدي وخليفته ليندون جونسون. الزعيمان يتصافحان جلوساً، وكل منهما يبتسم على طريقته ووفق تفكيره. الزيارة الثانية إلى منطقة الأنفاق، وتبعد عن مدينة هو شي منه (سايغون) حوالى مئة كلم إلى الشمال وقرب الحدود الكمبودية. وهي منطقة cu chi الزراعية، حيث حقول الرز وشجر المطاط على طول الطريق من سايغون.


 
إنها حقاً تستحق عناء الزيارة، كانت السلاح الفتاك في وجه الجيوش الأميركية، وتظهر عبقرية القيادة العسكرية للجنرال جياب. فلقد استحدث الفيتناميون، تحت الأرض وفي حدود 200 كلم، سلسلة من الممرات المتشعبة والمتصلة ببعضها. وتكوّن مجتمعاً متكاملاً، يشتمل على مقر القيادة وغرف عمليات جراحية وقاعات للتدريس والتعبئة والدعاية ومطابخ تتصل بها قنوات من قصب البامبو ليصل دخان طهو الطعام بعيداً من المكان، حتى لا تكتشفها طائرات الاستطلاع فتقصفها. وكان السياح الأميركان الأكثر ذهولاً بالمواقع التي تتضمنها الأنفاق، وقد يكون الكثير منهم فقدوا أخاً أو قريباً أو صديقاً في هذه المواقع. كانت الأنفاق مقراً لقيادة قوات «الفيتكونغ»، الفصيل الشيوعي الجنوبي، وكانت الأسلحة والذخائر والمعدات تأتي من الشمال إلى الجنوب، إما عبر الهضاب الكثيفة أو عبر الأنفاق وذلك منعاً لاكتشافها بواسطة طائرات الاستطلاع الأميركية. وكما قال لنا الدليل بلغة إنكليزية سليمة إن حياة المقاتلين في الأنفاق كانت قاسية، بسبب سوء التهوئة وقلة الطعام والماء وشدة الحر. كانت الحشرات والأفاعي تنتشر وتلحق الأذى بهم. وكانت الملاريا تأتي بالدرجة الثانية بعد القصف الجوي في إلحاق الموت بالمقاتلين والسكان. ومع اشتداد قصف قاذفات B - 52 كان المقاتلون يبقون أياماً في الأنفاق. وتمادى الأميركيون أيضاً في إلحاق الأذى عبر ضخ الغاز والماء عند مداخل الأنفاق لتسميمها وإغراقها ودفع المقاتلين إلى الخروج من أوكارهم. إلا أن عبقرية الفيتناميين في تطوير شق الأنفاق وإحداث نظم اتصال وتهوية كان لها الأثر الكبير في الصمود.


 
حضارة راسخة متعددة الثقافات
 
يعتز الفيتناميون بأنهم أصحاب حضارة وثقافة راسخة على العصور، ومهنة الحرب والقتال ليست المهنة الوحيدة التي أتقنوها. لقد كان لهم شأن عظيم في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهم يحترمون حكماءهم ويبجلون أدباءهم في كل المناسبات، ومن أبرزهم Ngô si Lien، الفيلسوف والحكيم الذي تولى تنشئة الأمبراطور العظيم Tron Nham Tong وتوجيهه، الذي عرف بميوله الفلسفية إلى جانب قوته في توحيد البلاد، وطور فكراً فلسفياً خلال القرن الثالث عشر عرف بـTruc Lâm Zen. وما زالت هذه الفلسفة التي تعرف في أيامنا بفلسفة «الزن البوذية» مرموقة ومعروفة إلى جانب الطاوية والكونفوشيوسية وغيرهما من الاتجاهات الفلسفية التي تغني التراث الإنساني. أما في الشأن الثقافي فهناك ثلاث طبقات متداخلة خلال حقب التاريخ: الثقافة المحلية والمتولدة من سلوك الشعب، في الآداب والمأكل والملبس وأنواع الآلات الموسيقية والترفيهية. الثقافة المختلطة، بخاصة مع الصين التي ارتبطت بفيتنام سلماً وحرباً ومصالح تجارية، إضافة إلى باقي البلدان المحيطة بحوض نهر «الميكونغ» مثل تايلند ولاوس وكمبوديا.

 

الثقافة متفاعلة مع الغرب الأوروبي والأميركي، والفرنسي خصوصاً الذي استعمر البلاد عقوداً عدة فنشر لغته وأسلوب عيشه وأنماط مبانيه التي ما زالت من معالم البلاد المهمة، والأميركي الذي غزا فيتنام حرباً ثم خرج مهزوماً، ليعود سائحاً ومستثمراً وشريكاً صناعياً. وميزة الشعب الفيتنامي البارزة هي فشل الثقافات الخارجية في السيطرة وإلغاء خصوصيته، بل تفاعل معها وأغناها، ويظهر ذلك جلياً في سبل عيش المواطن العادي وانفتاحه على الغريب وعدم الخوف والتوجس منه، إضافة إلى ميله إلى التأمل والروحانيات. ومع تطور سياسة الانفتاح التي انتهجتها القيادة السياسية في السنوات الماضية، وفي حرصها على تعزيز العلاقة مع الغرب، أصبحت اللغة الإنكليزية اللغة الثانية حتى في إدارات الدولة والمصارف والشركات والفنادق، مع انتعاش ملحوظ للغتين اليابانية والصينية بسبب تطور العلاقات التجارية مع الدولتين. والواضح أن العرب لم يهتدوا بعد إلى طريق بلاد الآنام، مع وجود أعداد من المسلمين من ذوي السحنة الآسيوية، يرتادون الجامع الملاصق لفندق الشيراتون وسط سايغون. وقد تكفل ببناء هذا المكان الفسيح رجال أعمال خليجيون.