أعلى

 

في الجزء الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة الأيبيرية، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، تقع برشلونة، عاصمة منطقة كتالونيا الإسبانية، التي تعتبر ثاني أكبر مدن إسبانيا، بعد مدريد العاصمة. في برشلونة، تنسيك الرامبلة سحر ساحة جامع الفنا المغربية، سياحة فاخرة وعروض تمزج الفن بالاستجداء من دون حاجة إلى مد اليد، فنانون يختارون طرقا راقية لكسب الرزق، منهم من يتقمص شخصية جندي شارك في الحرب العالمية الأولى، ومنهم من يتقمص شكل وصورة الرجل الوطواط أو يعيد رسم جمال كليوباترا، أو يعيد بعث رعب فجرته شخصية دراكولا، مصاص الدماء، بينما عيون السياح تستمتع بما يعرض أمامها. برشلونة، المدينة التي تنبعث من أزقتها رائحة التاريخ والحضارة تبدو كما لو أنها تتنفس كرة القدم، حيث ألوان «البارصا» تغطي المكان. مقهى زيوريخ وحمام ساحة كتالونيا. نصب كريستوفر كولومبوس، والمتاحف، والحدائق، بينما تبهرك ألوان الفواكه بطريقة تنسيقها العجيبة والجميلة، داخل سوق لابوكوريا للفواكه، التي تتوسط الرامبلة. تبدو برشلونة كما لو أنها في حلم تشكل على إيقاع المجد الكروي المتواصل لفريق إف سي برشلونة، أو البلوغرانا، نسبة إلى ألوان قمصان لاعبيه. مع جنون الكرة الذي يجتاح برشلونة، ستشعر كما لو أن المدينة في طريقها لأن تغير اسمها من برشلونة إلى «إف سي برشلونة». داخل محلات بيع تذكارات «البارصا»، ستتساءل: «هل المدينة أشهر من الفريق، أم أن الفريق من يصنع شهرة المدينة الكتالونية؟». مع جنون الكرة الذي يجتاح المدينة، يبدو ميسي وزافييه وإنيستا وديفيد فيا ملوكا في برشلونة. قمصانهم تباع بشكل أفضل. في برشلونة. حتى إبراهيم أفلاي، هذا اللاعب الهولندي، المغربي الأصل، أرغم أحفاد إيزابيلا وفرديناند، التي اقترن اسمهما بطرد المسلمين من أرض الأندلس، على انتدابه ووضع اسمه على قميص الفريق ليلبسه عشاق الفريق. هكذا، صار ميسي وزافييه وإنيستا وديفيد فيا، وغيرهم من نجوم «البارصا»، أشهر من بيكاسو ودالي وكافكا. الأطفال والشبان والشابات والكهول، يقبلون بشكل جنوني على محلات بيع القمصان والتذكارات الخاصة بفريق الكرة: أقلام رصاص، ولعب، وقمصان، وكروت تحمل شعار «البارصا». حلم حول الفريق إلى دجاجة تبيض ذهبا. «النيوكاب»، الملعب الذي يحتضن مباريات «البارصا»، صار ينافس متاحف وأبراج المدينة، إذ يقصده عشاق الفريق على مدار اليوم، أما قناة الفريق الكتالوني فتؤكد لك كيف صار بإمكان نادي كرة قدم أن يتحول إلى دولة داخل دولة، ليبرز السؤال: «هل يمكن تصور مدينة برشلونة من دون (البارصا)؟». وإذ جرت العادة أن يكون لكل مدينة خاصية تميزها عن المدن الأخرى، فإن برشلونة تجتمع فيها كل الخصائص الثقافية والتجارية والاقتصادية والطبيعية: مدينة أوروبية عصرية، بنكهة متوسطية وتاريخ ضارب في أعماق التاريخ. زوارها يسابقون الزمن (دون جدوى) لمشاهدة أكبر قدر من معالمها. ومن أهم المزارات السياحية والثقافية، التي تميز برشلونة، نجد ساحة كتالونيا، وكازا ميلا، وكازا باتلو، وصالة باولو للموسيقى، ومتحف برشلونة للفنون المعاصرة، والحي القوطي، وكنيسة برشلونة، ومتحف بيكاسو، ومتحف تاريخ المدينة، وسوق لابوكوريا للفواكه، وأوبرا ليثيو، وقلعة بالاو غويل، ونصب كريستوفر كولومبس، والمتحف البحري، وحوض الأسماك، ومركز ماريماجنم التجاري، وحديقة كوستا أي ليلوبيرا، والمتحف الحربي، ومتحف فونداثيو خوان ميرو، والمسرح الروماني، ومتحف كتالونيا الوطني للفنون، والنافورة الساحرة، ومعرض برشلونة، ومتحف السيراميك، وبرج كولسيرولا، وكنيسة ساغرادا فاميليا، وقوس النصر.

 

وبالمقابل في الجنوب الإسباني، وعلى امتداد «الكوستا ديل سول»، يمكن للمرء أن يركن إلى ذاكرة التاريخ، لتبرز أمامه خارطة الأندلس بجغرافيتها وتاريخها. الأندلس كمراحل لتشكل حضاري لم تستطع إسبانيا، ما بعد القرن الخامس عشر، أن تطردها من ذاكرتها وكتبها: الذاكرة، قبل أن تكون تاريخا يسطر في الكتب، هي، في الأندلس، صخور نحتت ومبان شيدت، لتعيش شاهدة على أثر عرب مروا من هناك. في المطويات التعريفية بإسبانيا عامة، والأندلس خاصة (تشكل الأندلس نسبة 18 في المائة من ساكنة وجغرافية إسبانيا)، يطرح الإسبان تعريف الأندلس المسلمة كمجال وتاريخ فلسفي وعلمي وأدبي تبرز من خلاله حقول الرياضيات وعلوم الفلك والفيزياء والطب وتقنيات الري. لم يكن في وسع الإسبان أن يفرطوا في أثارات تبيض ذهبا. ذلك حالهم مع قصر «الحمراء» وصومعة «الخيرالدة»، وغيرها من التحف الأثرية، التي يصطف إليها سياح من كل الجنسيات ليزوروا ويؤدوا واجب الزيارة مالا وإعجابا واستمتاعا. الإسبان كانوا أكثر دهاء مع ما تركه المسلمون في الأندلس. طوال قرون، كان لديهم الوقت الكافي للتحريف والتعديل والعناية، وفق ما يساير أهواءهم ومصالحهم وتطلعاتهم. يبدو بعض الإسبان الآن كما لو أنهم غير راضين عن مرور العرب والمسلمين من أرض الأندلس. هم يعطون الانطباع بأن هذا الجزء من تاريخهم لا يروق لهم، إذ يؤرخ لبعض تفاصيله بمسلمين قطعوا البحر ليقيموا على أرضهم قرونا طويلة، حيث نظموا الشعر وبنوا القصور واستمتعوا بالموسيقى ونبغوا في الفلسفة والرياضيات وعلم الفلك، لذلك، ربما ساورك شعور بأن طرد المسلمين من أرض الأندلس لم يشف لجنود إيزابيلا وفرديناند غليلا، بعد أن حافظ الأحفاد على حكايات الأمس، عبر احتفالات سنوية تذكر بانتصار الكاثوليك على المورو. في جنوب الأندلس، وحتى قبل أن تصل إلى إشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية ومالقة وألمريا وأليكانتي، وغيرها من المدن، التي تميزها بنايات الماضي العربي الإسلامي، سيدغدغ خيالك هواء يحمل رائحة عربية ما زالت هنا. إنهم ما زالوا، هنا: أشعار ابن زيدون وولادة، وكتابات ابن رشد وابن عربي، زوارق طارق بن زياد وخيول المرابطين والموحدين، وقصة ملوك الطوائف. ستتذكر، وأنت تتجول داخل قصور وأسوار الأندلس، يوسف بن تاشفين، بطل الزلاقة، وأمير المرابطين، وعبوره المتكرر إلى الأندلس، وما خلده التاريخ من حكاية الملك والشاعر المعتمد بن عباد، الذي لا يذكر إلا وتذكر اعتماد الرميكية، زوجته الشهيرة: اعتماد، التي عاشت تحتل مكانة بارزة في حياة المعتمد، حتى إنها كانت لسمو مكانتها وتمكن نفوذها يطلق عليها اسم «السيدة الكبرى».

 

كانت اعتماد، والعهدة على كتب التاريخ وكتابات المهتمين والباحثين، تغالي في دلالها على المعتمد، ومن ذلك، أنها طلبت منه أن يريها الثلج، فزرع لها أشجار اللوز على الجبل المقابل للقصر، حتى إذا نوّر زهره بدت الأشجار وكأنها محملة بالثلج الأبيض. ومن ذلك، أيضا، أنها رأت نساء يمشين في الطين، في يوم ممطر، وهن يتغنين فرحات، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد أن يُصنع لها طين من الطيب، فسحقت أخلاط منه وذرت بها ساحة القصر، ثم صب ماء الورد على أخلاط المسك وعجنت بالأيدي حتى عاد كالطين، فخاضته مع جواريها. غير أن ما يمكن أن يجلب العذر للمعتمد بن عباد، في سياق الحديث عن ملوك الطوائف ويوسف بن تاشفين، الذي تذكر كتب التاريخ أنه «كان صواما قواما زاهدا متقشفا لم يكن يأكل سوى خبز الشعير، ولحم الإبل، وشرابه لبن النوق»، هو مستوى الهيام الذي ظل يكنه لزوجته الشاعرة. وهو هيام يمكن أن يفقد العقل ويضيع الإمارة، وكل الأندلس، ويطوح بصاحبه إلى أغمات سجينا. المعتمد، العاشق حتى الضياع، هو نفسه الذي تذكر عنه كتب التاريخ مواقف جميلة تنم عن صفاء طوية ونخوة كامنة. المغاربيون موجودون في كل مدينة وقرية إسبانية، تقريبا. في المدن، تتميز الأحياء، ذات الغالبية المسلمة، بأنها تذكرك بأحياء المدن المغربية. سانتا كولوما، في برشلونة، والرصافة، في بلنسية، مثلا. لا فرق تقريبا بين حي الرصافة وأحياء الدار البيضاء. أو بين حي سانتا كولوما وأحياء طنجة. الفرق الوحيد هو أنك، حين تتعدى محيط الرصافة أو سانتا كولوما، ستكتشف أنك في إسبانيا. أما حين تتعدى محيط الحي المحمدي في الدار البيضاء مثلا، فستكتشف أنك ما زلت في المغرب. في فوينخيرولا، كما في إيستبونا وماربيا وبنالمدينا وطوريمولينوس، تتعدد الثرثرات وتتوفر مساحة الاستجمام ويفتح أمام الجميع هامش للتسوق والسياحة. المهم أن يكون الجيب حاضرا بدفئه. في فوينخيرولا، وغيرها من مراكز ونقط الاصطياف والاستجمام، على شاطئ الكوسطا دل سول، المسابح تجاور العمارات التي تطل بدورها على البحر الأبيض المتوسط. الشواطئ الإسبانية منذورة للسباحة والفرحة وراحة البال. لا حياء في شاطئ، أما جمال الأندلسيات فقاتل. في بلنسية، كما في سائر المدن الإسبانية، تبدو الحياة أشبه بأعراس متواصلة. التجول في بلنسية ينقلك من خضرة نهر ثريا إلى البنايات الجميلة والحداثية التي شكلها المهندس الشهير سانتياغو كالاترافا، إلى حي الرصافة، بمسلميه وعناوينه العربية، وساحة بولتسرية، التي تقترح أحلى السهرات.