أعلى

 

في الليلة التي سبقت وصول «أميرالد برنسيس»، السفينة السياحية المحيطية العملاقة الأنيقة، التابعة لشركة «برنسيس كروز» السياحية الأميركية، إلى فنلندا، تحدث عن فنلندا أميركي من أصل فنلندي. كانت هذه عادة في هذه السفينة؛ في الليلة التي تسبق وصولها إلى دولة أوروبية، تقدم محاضرون، أو حلقات نقاش عن الدولة. لكن ربما لم يكن اختيار الأميركي موفقا، وسط ثلاثة آلاف سائح تقريبا، كان هناك سياح أميركيون من أصل روسي. لهذا، لفترة قصيرة خلال المحاضرة، بدا وكأن الحرب الباردة بين الغرب والشرق قد عادت. وكأن حربا حول فنلندا اشتعلت؛ هل فنلندا أوروبية غربية؟ أو أوروبية شرقية؟

 

 غريبة! رغم أن هؤلاء أميركيون، بعضهم من الجيل الثاني من المهاجرين، وبعضهم من الجيل الثالث، أعادوا التاريخ القديم. ودافع كل واحد عن أرض أجداده. وصار واضحا أن هناك صراعا تاريخيا بين روسيا وفنلندا (كانت هذه الزيارة قبل المشكلة الحالية حول أوكرانيا، التي، مثل فنلندا، تبادلت احتلالها دول أوروبية كبرى. تبادلت روسيا والسويد احتلال فنلندا، وتبادلت روسيا وألمانيا احتلال أوكرانيا).

 

في الحقيقة، لعدة أيام في دول بحر البلطيق، أثارت جولة هذه السفينة السياحية تحالفات وعداءات تاريخية، يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد. في استوكهولم (عاصمة السويد)، افتخر سويديون بأنهم احتلوا فنلندا لعدة قرون. وفي سنت بيترزسبيرغ (ميناء روسيا على بحر البلطيق)، افتخر الروس بأنهم هزموا السويد، واحتلوا فنلندا. وفي هلسنكي (عاصمة فنلندا)، اشتكى فنلنديون من الاثنين. وفي كوبنهاغن (عاصمة الدنمارك)، افتخر دنماركيون بأنهم هزموا السويد، وسيطروا على بعض مستعمراتها. وفي أوسلو (عاصمة النرويج)، افتخر نرويجيون بأنهم تحاشوا بحر البلطيق، واحتلوا أجزاء من بريطانيا وفرنسا.

 

وفي تالين (عاصمة إستونيا)، اشتكى إستونيون من الروس. وحدث نفس الشيء في ريغا (عاصمة لاتفيا). وفي فلنيوس (عاصمة لتوانيا).

 

 * الحزب الشيوعي الأميركي

 في المحاضرة عن فنلندا، قال المحاضر إنها صغيرة في الحجم وعدد السكان بالمقارنة مع روسيا المجاورة (خمسة ملايين فنلندي، بالمقارنة مع 150 مليون روسي). لكنها كبيرة، في الحجم والسكان، بالمقارنة مع دول مجاورة (مليون إستوني فقط، ومليونا لاتفي فقط). ورغم أنها دولة مستقلة، وديمقراطية، ومثابرة، لا تقدر على أن تنسى ماضيها. خاصة لأن السويد احتلتها لـ700 سنة، ثم احتلتها روسيا (أو سيطرت عليها) لمائتي سنة. ولم تصبح مستقلة حقيقة، وديمقراطية حقيقة، إلا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والحزب الشيوعي السوفياتي، قبل 25 عاما تقريبا.

 

خلال المحاضرة، ظهر اختلاف آخر. هذه المرة، ليس عن الحروب والغزوات، ولكن عن برنامج الضمان الاجتماعي في فنلندا. قال مقدم المحاضرة: «إذن ليس أحسن ضمان اجتماعي في العالم، هو واحد من أحسنها». وأضاف: «هذا جزء من فلسفة إسكندنافيا عريقة، تؤمن بأن يجتمع الناس، ويؤسسوا حكومة، ويدفعوا ضرائب لها، وتشرف هي على حياتهم الصحية من الميلاد إلى الموت». هنا، هب أميركي قال إنه جنرال سابق في القوات الأميركية المسلحة، وينتمي إلى الحزب الجمهوري، ويؤمن بفلسفة «ريغانوميكز» (فلسفة الرئيس السابق رونالد ريغان، الذي فاز مرتين برئاسة الجمهورية، عام 1980، وعام 1984، تحت شعار: «ليست الحكومة هي الحل. الحكومة هي المشكلة»). انتقد الجنرال السابق فلسفة الضمان الاجتماعي، وقال إن كل شخص يجب أن يكون قادرا على العمل، وعلى توفير جزء من دخله ليعيش به عندما يتقاعد ويكبر في السن.

 

وانتقد، أيضا، برنامج الضمان الصحي الذي يدعو له الرئيس باراك أوباما. ووصف أوباما بأنه «اشتراكي». وتندر على جدود أم أوباما (والده أسود من كينيا، وأمه بيضاء، هاجر جدودها من آيرلندا). وقال إن جدودها ربما هاجروا من فنلندا؛ «بلد زعيم الحزب الشيوعي الأميركي». قصد ربما أشهر أميركي من أصل فنلندي غاس هال، الأمين العام للحزب الشيوعي الأميركي لـ40 سنة (توفي عام 2000). اسمه الأصلي هو ارفكوستا هولبيرغ. ولد في ولاية منيسوتا من أبوين هاجرا من فنلندا. مثل كثير من المهاجرين من دول إسكندنافيا، يتمركز المهاجرون من فنلندا في الولايات الأميركية الشمالية الباردة (مثل منيسوتا، ويسكونسن، نورث داكوتا). في خمسينات القرن الماضي، مع بداية الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي (بقيادة روسيا) والمعسكر الغربي (بقيادة أميركا)، شن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي (إف بي آي) حملة ضد الأميركيين الشيوعيين. واعتقل هال، الذي كان من كبار قادة اتحادات العمال. وحوكم بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم، وسجن ثماني سنوات. وبعد أن خرج من السجن، زاد شيوعية. وأربع مرات ترشح لرئاسة الجمهورية، لكنه، طبعا، حصل على أصوات قليلة جدا.

 

 * في الحافلة

 في اليوم التالي للمحاضرة، وصلت السفينة إلى هلسنكي، عاصمة فنلندا، ومينائها الرئيس. واستقل الحافلة 50 سائحا، أغلبيتهم أميركيون. وقال المرشد الفنلندي إن اسمه القصير هو «جوكا» (جون باللغة الإنجليزية). لكن اسمه بالكامل طويل، ونطقه، وكان طويلا. وضحك سائحون من طول الاسم. ولم يقدر واحد على أن يكرره صحيحا، وقال المرشد إن الأسماء في فنلندا تركز على اسم العائلة، ويسبقها اسمان أو ثلاثة. وتدمج هذه الأسماء الثلاثة في اسم واحد. لهذا، يصير الاسم طويلا، مثل اسمه. وأشار سياح إلى أسماء محلات تجارية وشركات، مرت الحافلة بالقرب منها. وقالوا إنها، أيضا، طويلة. وأجاب المرشد بأن السبب هو دمج اسمين أو ثلاثة أسماء في اسم واحد. وقال إن هذه عادة في كل دول إسكندنافيا، وأيضا في ألمانيا. وقال إن كثيرا من الأسماء في فنلندا، مثل اسمه، أصلها سويدي. وذلك بسبب الاستعمار السويدي الذي استمر 700 سنة. ويستعمل كثير من الفنلنديين اسمين؛ فنلندي وسويدي. وحتى عندما يموت شخص، يوضح على قبره اسمان.

 

وينطبق هذا على اسم العاصمة هلسنكي (اسم فنلندي، لكن أصله سويدي قديم)، وهلسكنغفور (سويدي حديث).

 

بل حتى اسم «فنلندا» نفسه. هذا اسم أصله سويدي، والاسم الفنلندي هو «سومي».

 

وسأل المرشد: «هل تعرفون الحروب الصليبية؟». وقال سائحون أميركيون إنها التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بين المسيحيين والمسلمين (في القرن العاشر الميلادي). لكنه قال إن «الحروب الصليبية» بالنسبة للفنلنديين، وبقية شعوب إسكندنافيا، هي التي قادتها السويد، بين المسيحيين والوثنيين (خلال الفترة التاريخية نفسها). وقال إن السويديين، رغم قلة تدينهم اليوم، هم الذين نشروا المسيحية في تلك البلاد، في ذلك الوقت.

 

وسأل: «من يتابع منافسات كرة القدم الأوروبية؟» ولم يقل واحد من الأميركيين إنه يفعل ذلك. وأيضا، اختلط الأمر، لأن كلمة «فوتبول» (كرة القدم في أوروبا وبقية العالم) ليست «فوتبول» الأميركية (كرة اليد والجري).

 

على أي حال، قال المرشد إن اليوم السابق كان أسعد أيام حياته، وذلك لأن فنلندا هزمت السويد في منافسات كأس أوروبا. وذلك لأن السويد تهزم فنلندا كثيرا، ولأن انتصار فنلندا «جزء من الانتقام من 700 سنة من الاحتلال السويدي». كما قال، وكأنه يؤكد أن الشعوب لا تنسى الظلم الذي يقع عليها.

 

 * «أنغري بيردز»

 

افتخر المرشد السياحي الفنلندي باختراع فنلندي آخر: «أنغري بيردز» (الطيور الغاضبة). هو أشهر لعبة إلكترونية في تاريخ العالم. بيعت منها قرابة 20 مليون نسخة. وقام مستخدمون بتنزيلها أكثر من ملياري مرة. وصارت أكثر لعبة إلكترونية تُحمّل، وتوزع. هذه المرة، تحمس السياح الأميركيون لهذا الاختراع الفنلندي، ربما لأنه مجرد لعبة. وربما لأن شركة «أبل» الأميركية تشترك في توزيعه. غير أن هؤلاء السياح لم يتحمسوا عندما قال المرشد الفنلندي: «قريبا جدا، ستكون (أنغري بيردز) أشهر من (ميكي ماوس). الشخصية الكرتونية الأميركية التابعة لمتنزهات (ديزني)، التي تعدّ الأشهر في العالم». وتحمسوا عندما سألهم المرشد: هل رأيتم «ستار وورز» (حروب النجوم)؟ ظنوه الفيلم الأميركي المشهور. لكن، خيب المرشد أملهم، عندما قال لهم: «أنغري بيردز ستار وورز» (حرب النجوم للطيور الغاضبة). في الحقيقة، هذه واحدة من أنجح الألعاب، ووُزِّعت بعد موافقة الشركة الأميركية، لأنها تحمل شعار الفيلم.

 

مرت الحافلة، في ضواحي هلسنكي، بالقرب من رئاسة شركة «روفيو» التي تنتج «الطيور الغاضبة». وأسهب المرشد في الشرح والفخر. ودعا الأميركيين إلى العودة إلى فنلندا مرة أخرى للقيام بجولة داخل المبنى. لكن، كرر بأن هناك «مناطق محظورة»، فيها أسرار تكنولوجيا هذه الألعاب، ولا يسمح بدخولها إلا لعدد قليل جدا وسط العاملين في الشركة (ناهيك عن فنلنديين وأميركيين). وتحدث المرشد، أيضا، عن متنزه «ساركانيني»، وقال إنه يشبه متنزه «ديزني» الأميركي. لكن أبطاله هم «الطيور الغاضبة»، وليس «ميكي ماوس» و«البطة دونالد» و«الكلب بلوتو». يقع المتنزه بالقرب من «نوكيا»، شمال هلسنكي، مكان بداية شركة الهواتف «نوكيا».

 

 * هاتف «نوكيا»

مثل كل مرشد سياحي في هذه الجولة الأوروبية، ركز «جوكا» ليس على الماضي والحروب، ولكن على التطور في الحاضر والمستقبل. كل دولة أوروبية تفتخر بماضيها. لكنها ترى نفسها في سباق مع جاراتها في هذا العالم الذي يتطور سريعا. قال المرشد: «يا سائحي السفينة (أميرالد برنسيس)، مرحبا بكم في بلد (أوسيس أوف ذا سي). هذه أكبر سفينة سياحية محيطية في العالم. وصنعت في فنلندا. وإذا تحمل الأولى ثلاثة آلاف سائح، تحمل الثانية ضعف هذا العدد. ورغم أن فنلندا كانت، حتى الحرب العالمية الثانية، ريفية أو شبه ريفيه، تطورت كثيرا، خاصة في مجال صناعة السفن المحيطية». لكن، لم تكن زيارة حوض بناء السفن في البرنامج السياحي. وأيضا، لم تكن زيارة شركة «نوكيا» للهواتف الذكية. وعلى أي حال، لم يكن السياح الأميركيون متحمسين لزيارة أي من المكانين؛ أولا: خلال هذه الجولة الأوروبية، كانوا شغوفين بزيارة الأماكن التاريخية والثقافية والدينية؛ الكاتدرائيات، والمتاحف، والقصور العريقة. وليس مصانع يعتقدون أنها أقل تطورا من المصانع الأميركية.

 

ثانيا: كيف يزورون شركة هواتف «نوكيا» الفنلندية التي تنافس تلفونات «أبل» الأميركية. خاصة، مع أنباء حول أن شركة «مايكروسوفت» الأميركية ستشتري «نوكيا».

 

 * ما أصل «نوكيا»؟

 في عام 1865. تأسست في مدينة «نوكيا» الصغيرة (شمال هلسنكي) شركة «إيدلسام» لقطع الأخشاب، وتصديرها. وفي عام 1898، تأسست في المدينة نفسها شركة «غاميتهاداس» لإنتاج المطاط من الأشجار. وفي عام 1967 اندمجت الشركتان. لكن اختلفتا حول اسم الشركة الموحدة. وفي النهاية، اتفقا على أن تُسمى «نوكيا»، باسم المدينة. وانقسمت الشركة الموحدة إلى أقسام فنية، منها قسم التكنولوجيا. وهو القسم الذي طور هاتف «نوكيا». وربما مثل كل شيء في فنلندا «نوكيا» لها اسمان؛ فنلندي «نوكيا اوي» وسويدي «نوكيا أبب». افتخر المرشد السياحي الفنلندي بأن «نوكيا»، حتى وقت قريب، كانت أكبر شركات الهواتف الذكية في العالم. كان يعمل فيها قرابة مائة ألف شخص، في أكثر من مائة دولة. لكن، نافستها «أبل» الأميركية، و«سامسونغ» الكورية، و«بلاكبيري» الكندية. وهبطت من المرتبة الأولى إلى المرتبة الخامسة. وفي السنة الماضية، اشترتها شركة «مايكروسوفت» الأميركية بسبعة مليارات دولار.