أعلى

 

على الرغم من أن التاريخ يذكر أن نبع «أفقا» قرب مدينة تدمر الذي يعني بلغتها «البداية» أو «الفجر» هو أصل حياة وقيام مدينة تدمر وواحتها الخضراء وسط البادية ومملكة زنوبيا الشهيرة قبل ألفي سنة حيث ما زال هذا النبع الكبريتي وبما يتبوأه من موقع تاريخي وأثري سياحي مهم رابضا بجوار المدينة العريقة يجذب السياح إليه مع أوابد تدمر الخالدة على مدار العام، فإن سورية وبما تملكه من غنى وتنوع في المناطق الجغرافية من جبل وبادية وسهل وساحل وشبه جزيرة وغيرها، وجد فيها كثير من ينابيع المياه الكبريتية التي تحولت في السنوات الماضية إلى أماكن مخصصة لتلقي العلاج الطبيعي واستثمر بعضها سياحيا كمراكز استجمام وعلاج للسياح وزوار سورية الباحثين عن حمام كبريتي أو علاج بالبخار الخارج من الأرض بشكله العفوي ومن دون تدخل الإنسان، واسترخاء هادئ بجوارها يريحون أعصابهم المتعبة وعضلاتهم المجهدة ويعطلون مؤقتا تفكيرهم وانشغال عقلهم بقضايا العمل والأرباح والخسائر، ويداوون بها أمراض المفاصل والجلد ويعالجون آثار الشيخوخة والروماتيزم، بحيث تحولت هذه الأماكن إلى مقصد يومي لهؤلاء، وعلى الرغم من تطورها البطيء وضعف انتشار ثقافة سياحة المنتجعات العلاجية في سورية كما هي الحال في بعض البلدان المجاورة والبلدان الأوروبية والآسيوية، فإنها أخذت سمعة شعبية من خلال تجارب الزائرين لها الذين قاموا وبشكل عفوي بنشر الدعاية لها عندما عادوا لبلادهم ونصحوا أقاربهم وأصدقاءهم بزيارة هذه الينابيع والأماكن التي تقدم السياحة الطبيعية والعلاج الجسدي والعصبي والنفسي لمن يرغب في الاستفادة من حرارة مياهها وجماليات موقعها.


«أبو رباح» و«العباسية» و«أفقا»: كان لا بد من أن نقطع مسافات ومسافات، جبالا ووديانا.. تلالا وبوادي.. وسهولا، حتى نتمكن من الإحاطة بمعظم تلك الينابيع الكبريتية؛ هذه الثروة السياحية السورية المضيعة حيث لم تستثمر بعد بالشكل الذي يليق بمكانتها السياحية والعلاجية باستثناء بعضها.. يبتسم حسان الذي عرفني على نفسه بأنه أحد المهتمين بالواقع السياحي في سورية وكان يجاور مقعدي حيث أجلس في البولمان المتجه نحو مدينتي النبك وحمص وعلم مقصدي من السفر حيث وصف الينابيع الكبريتية بالكنوز المنسية والضائعة ومعلقا: «كأنها مثل (ضيعة ضايعة) ذلك المسلسل الكوميدي الشهير الذي جذب الآلاف إلى تلك القرية الجبلية الساحلية المنسية بعد عرض المسلسل ويبدو أنه على منتجي ومخرجي الدراما السورية أن يصوروا مسلسلات تلفزيونية عن هذه الينابيع حتى تصبح مشهورة مثل (ضيعة ضايعة)». ولكن ليست كلها منسية، فها نحن في البادية السورية وفي مكان بعيد نسبيا عن أقرب مدينتين لها؛ وهما حمص التي يتبع لها إداريا ودمشق العاصمة التي يرتبط معها بطريق مباشر يبلغ طوله نحو 130كلم، ونقترب من نبع «أبو رباح» مقصدنا الأول في جولتنا وكان كثير من الزوار موجودين في هذا المنتجع العلاجي السياحي الطبيعي الذي يقع بالقرب من مدينة القريتين (يبعد عنها 20 كلم أي نحو ربع ساعة بالسيارة) ويمكن الوصول إليه مباشرة من دمشق حيث يأخذ السائح الطريق الدولي المتجه شمالا نحو حمص وعند منطقة النبك يتجه شرقا نحو دير مار موسى الحبشي ومن ثم نحو القريتين، وهو طريق جيد ويستغرق الوصول لحمامات «أبو رباح» نحو الساعتين والنصف بالسيارة حيث المسافة نحو 150 كلم ويمكن للسائح أيضا أن يأخذ طريقا أقصر قليلا ولكنه أقل جودة وهو الانطلاق من دمشق نحو بلدة القطيفة على الطريق الدولي، ومن ثم الانعطاف باتجاه القلمون، ومن ثم بلدات جيرود والناصرية، ومن ثم القريتان حيث تبلغ المسافة نحو 120 كلم فقط، وحمامات «أبو رباح» التي تتميز بوجود كل مستلزمات السائح القاصد لهذا المكان تعطي أبخرة مائية ساخنة تصل حرارتها إلى 60 درجة تندفع بشدة من باطن الأرض، التي يؤكد الباحثون الجيولوجيون أن استثمار هذه المياه سياحيا وصحيا كان موجودا منذ آلاف السنين، فقد بني على هذه الأبخرة منشآت سياحية وصحية منذ أيام الرومان ما زالت آثارها باقية حتى الآن، وواقع الحمامات الحالي قائم على بركان خامد يتضمن حماما يخرج البخار من فوهة داخل الحمام (هناك الماء الذي ينزل بالفالق العميق ليخرج منه بخارا) الذي كان عبارة عن خان يستقبل المسافرين في البادية أيام العثمانيين، كما يذكر أحد أبناء القريتين العارف بتاريخ منطقته، ولكن مع مرور الزمن تهدم الخان وانخفض في الأرض فبني الحمام على أنقاضه وأخذ شكل الحمامات العربية التقليدية على الرغم من مساحته القليلة نسبيا، وأضاف إليه بعض الزوار البورسلان ليظهر بشكل جيد، وعند الدخول للحمام هناك المشلح، ومن ثم يستقبلنا البخار الطبيعي مباشرة، ولا بد للسائح هنا عندما يتعرض للبخار وهو دافئ جدا وساخن أن يضع بعد ذلك الماء البارد على جسمه حتى يتحمل درجة حرارة البخار المرتفعة، وحمامات «أبو رباح» لم تستثمر حتى الآن بالشكل المطلوب، ولكن يوجد شخص من المنطقة يدعى «أبو هيكل» بنى أربع غرف متلاصقة بعضها ببعض مع مولد كهربائي بجانب الحمام لخدمة الزوار والسياح حيث يمكنهم النوم فيها مع تأمين بعض الخدمات لهم مثل تقديم الشاي والقهوة ويمكن للسائح استخدام الغرفة ليوم واحد مقابل أجر بسيط يتراوح بين 500 - 1000 ليرة سورية (نحو 10 – 20 دولارا أميركي) وهو متباين حسب الازدحام والخدمات التي يطلبها السائح من أبو هيكل الذي ينظم الدور أيضا للدخول للحمامات، كما يوجد لديه خزان ماء يعبئ منه للسائح والزائر ما يلزمه من المياه الباردة بعد التعرض لبخار الحمامات الطبيعية حيث يتعرض لها السائح لمدة نحو ربع ساعة وبحسب تحمله لها وهي تساعد على استرخاء العضل وتغني عن المراهم والكريمات والحبوب المسكنة، ويرى كثير من أبناء المنطقة أنه من الضروري استثمار حمامات «أبو رباح» سياحيا، خاصة أنه توجد بجانبها آبار مياه كبريتية تصل درجة حرارتها لنحو 70 درجة مئوية وتوجد بحوضين وبجانبها استراحة تتبع مشروع تنمية البادية المنفذ بالتعاون مع منظمات دولية مختصة، واستثمار الحمام يمكن أن يتم بالشكل التقليدي من خلال التخييم أو القباب.

 

في قلب البادية وبجوار الخالدة (تدمر) يوجد نبع «أفقا» الذي جفت مياهه الكبريتية عام 1993 وهناك محاولات من المعنيين والمسؤولين عن آثار تدمر وبالتعاون مع بعثة أثرية فرنسية درست كهف ونبع «أفقا» وأعدت دراسات ورسوما خاصة به، وكذلك مع النادي اللبناني للتنقيب عن الكهوف والمغارات، قدمت دراسة أولية تضمنت تحريات هندسية وطبوغرافية وجيولوجية للكهف والنبع، هذه المحاولات المتواصلة - يقول وليد أسعد - مدير آثار ومتاحف تدمر تصب نحو إعادة الحياة والتأهيل والاستثمار السياحي لنبع «أفقا» الكبريتي التاريخي الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ستة آلاف عام وتبلغ درجة حرارته 43 درجة مئوية ثابتة صيفا وشتاء، وقد عرض استثمار النبع في سوق الاستثمار السياحي لعام 2010 المنظم من قبل وزارة السياحة السورية. ونترك نبع «أفقا» الذي يقدم للسائح والزائر أكثر من متعة؛ فهو إضافة لأهمية مياهه الكبريتية، فإنه يشاهد في كهفه مجموعة من الكتابات الأثرية، كما عثر في مدخله على عدة مذابح من الحجر المنحوت التي يمكن للسائح مشاهدتها في متحف المدينة معروضة هناك، ومنها أن المياه كانت موزعة بأمر من يرحبول إله الشمس بين المواطنين وأن مسؤولا من رجالات المدينة ينفذ هذا الأمر الإلهي ويسمى «القيم». نترك «أفقا» الرائع لنتجه شرقا في البادية السورية أيضا وعلى مسافة 45 كيلومترا عن تدمر وبزمن نحو الساعة بالسيارة كنا في موقع نبع العباسية الذي يتدفق بالمياه الكبريتية منذ أكثر من 20 عاما من عمق نحو 600 متر وبغزارة عالية تصل حتى 94 لترا في الثانية ويؤكد المختصون الأهمية السياحية والعلاجية لهذا النبع الذي ينتظر المستثمرين لإقامة مشروع منتجع متكامل بجواره يتضمن فندقا ومطعما ومسابح كبيرة الحجم يمكن أن تستثمر صيفا وشتاء حيث واقعه الحالي عبارة عن غرفة صممت على شكل بركة وصلت بخط ماء من النبع. وقبل أن نترك محافظة حمص وباديتها كان لا بد من التوجه غربا نحو الطريق الذي يربط حمص بالساحل، فعلى مسافة نحو 45 كلم عن حمص غربا توجد قرية شهيرة تسمى الزويتينية وشهرتها جاءت بشكل رئيسي من نبع يجاورها يدعى «الفوار» يؤمه آلاف الناس والسياح سنويا وقد أقيم بجانبه منشآت سياحية تقدم خدماتها لزوار النبع من طعام ومنامة ويتميز النبع الذي يخرج من مغارة بعراقته وقدمه حتى إن المؤرخين ذكروا أن القدماء كانوا ينظرون إليه على أنه ماء مقدس.

 

منتجع طريق الحرير وحمامات الشيخ عيسى ورأس العين: ونتوجه شمالا آخذين الطريق الدولي ما بين حمص وحماة وحلب، وبعد أن نتجاوز مدينة حمص شمالا بنحو 35 كيلومترا نحو حماة تجذبنا لوحة إعلانية كبيرة تشير لمنتجع مياه كبريتي يدعى «طريق الحرير» ندخله من خلال طريق فرعي بطول نحو 500 متر لنرى تصميه المعماري الجميل ولنستمع من القائمين عليه وهم مختصون في الاستثمار السياحي حيث أقيم المنتجع على بئر مياه كبريتية حفر على عمق نحو 400 متر لتخديم السياح الباحثين عن خدمات السياحة العلاجية ويقول المشرف على المنتجع عمار الخالد لـ«الشرق الأوسط»: «المنتجع موجود منذ تسع سنوات وهو مصنف بنجمتين سياحيا ويوجد على مساحة نحو 18000 متر مربع ويضم مياها كبريتية حرارتها 45 درجة مئوية ويضم مقصورة للعلاج ومسبحا شتويا بقدم خدمات الساونا والبخار والجاكوزي ويتصاعد البخار بشكل طبيعي خاصة في فصل الشتاء، وهناك مقصورة للعائلات تتسع لعشرة أشخاص، ويضم المنتجع مطعمين، واحد صيفي وآخر شتوي، يقدمان أنواع المأكولات الشرقية والغربية كافة، كما يضم المنتجع حدائق ومتنزهات خضراء جميلة، بينما لا يوجد فندق حاليا، حيث ما زال قيد الإنشاء وسينجز خلال العام الحالي ولكن يمكن للسائح الزائر للمنتجع أن يستفيد من خدمات المنتجع ويتناول طعامه فيه وينام في أحد فنادق مدينة حماة التي لا تبعد أكثر من 10 كلم أي نحو عشر دقائق بالسيارة، والمنتجع مفتوح طيلة أيام الأسبوع من التاسعة صباحا وحتى الثانية بعد منتصف الليل. لننعطف باتجاه محافظة ادلب في منطقة سهل الروج وحيث يوجد واحد من أهم حمامات المياه الكبريتية والمستثمرة سياحيا وعلاجيا وهو «حمامات الشيخ عيسى» قرب قرية حمامة التي تتبعها إداريا والموقع ملك لصالح وزارة السياحة السورية، حيث يؤمه المصطافون والسياح والباحثون عن العلاج الطبيعي ليأخذوا فيه حماما معدنيا ويمكنهم النوم في الفنادق المقامة بجانب الحمامات ومنها «الشلال» وهو بطابق واحد من 30 غرفة، وهناك فندق «الاتحاد»، كذلك يوجد عدد من المطاعم الشعبية التي تقدم وجبات شرقية كاللحم المشوي والوجبات السريعة مع المشروبات الساخنة والباردة وهناك مقصف «الوادي الأخضر» التابع لبلدية حمامة الذي يقدم المأكولات بجميع أنواعها والمشروبات مع الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تتمتع بها المنطقة حيث هناك وادي نهر العاصي شمال مدينة جسر الشغور بنحو 20 كيلومترا التي توجد على الطريق الدولي الرابط بين مدينتي اللاذقية على شاطئ المتوسط ومدينة حلب عاصمة الشمال السوري؛ إذ يمكن الوصول إليها من طريقين دوليين؛ إما دمشق – حلب، أو اللاذقية - حلب، وحمامات الشيخ عيسى التي يقال إنها تعالج الأمراض الجلدية تتكون على الشكل التالي: حيث تتجمع مياه النبع في بركتين ذات سقفين حجريين؛ واحدة للرجال، وواحدة للنساء، كما تتميز بحرارة مياه نبعها الكبريتي الدافئ الصاعد، التي تصل إلى نحو 35 درجة مئوية، وفي منطقة الحمامات توجد ينابيع كبريتية أخرى يصل عددها لنحو 12 نبعا يمكن استثمارها لصالح الحمامات، وهناك مياه بئر الضبيات الساخنة الذي تندفع منه المياه ذاتيا بحرارة 61 درجة مئوية وبتصريف قدره 30 مترا مكعبا بالساعة.

 

وللجزيرة السورية حصتها من الينابيع الكبريتية، ولعل أبرزها نبع رأس العين في أقصى الجزيرة السورية شمالا والتابعة لمحافظة الحسكة على بعد نحو 700 كلم عن العاصمة دمشق ونحو 9 ساعات سفرا بالسيارة.. كان أمامنا سهل زراعي رائع بجوار نهر الخابور، وحيث توجد منطقة السفح بجوار رأس العين اكتشف قبل نحو 40 عاما نبع الكبريت فيها الذي تحول في ما بعد لمقصد مهم للباحثين عن علاج لأمراضهم حيث ثبت معالجته للأمراض الجلدية من خلال الاستحمام في نهاية المجرى المنحدر من النبع والمتميز بهدوء مياهه وقلة عمقها وحيث تتشكل بحيرة قليلة العمق.

 

نعود جنوبا، بل إلى أقصى جنوب سورية، وعلى مسافة نحو 50 كلم من العاصمة دمشق باتجاه مدينة درعا في منطقة جباب بحوران، يوجد منتجع مياه كبريتي جميل ومستثمر أيضا بالشكل السياحي الجيد على غرار منتجع طريق الحرير قرب مدينة حماة يدعى «منتجع نبع الحياة» وتتميز مياهه الكبريتية بأنها تعالج كثيرا من الأمراض وقد بني المنتجع من الحجر البازلتي التراثي الذي أعطى المنتجع خصوصية وتفردا حيث توجد شاليهات لخدمة السياح والزوار كما يقدم لهم كل الخدمات الترفيهية والصحية.

 

يؤكد الباحث الجيولوجي الدكتور محمد رقية أن في سورية كثيرا أيضا من الينابيع الحارة والدافئة التي تنتظر همة المستثمرين السياحيين ومنها مياه درعا المعدنية جنوب العاصمة دمشق بنحو 100 كلم وساعة ونصف بالسيارة، التي تصل حرارتها إلى 45 درجة مئوية، وهناك في محافظة حلب شمال البلاد يوجد بئر اليادودة ومياه منطقة السفيرة جنوب شرقي حلب بنحو 35 كلم حيث يوجد فيها 35 بئر مياه معدنية حارة يقدر تصريفها بـ980 مترا مكعبا في الساعة وتصل أعماقها إلى 500 متر، وهناك الآبار الحارة شمال مدينة حماة وسط البلاد في بلدات صوران وقمحانة ومعردس على بعد نحو 10 كلم عن حماة وتتميز بدرجة حرارة مياهها التي تصل لنحو 40 درجة مئوية، التي يمكن أن تزيد حرارتها إلى 60 درجة أيضا عند عزل المستوى الحامل.