أعلى

 

تزخر العديد من الدول بمناطق أثرية، وتضم الكثير من المدن بعض المتاحف، أما سراييفو فهي متحف التاريخ، ورمز التعايش المنشود، ونموذج المستقبل الواعد. تستمد سراييفو خاصة والبوسنة عموما غناها من مسرح التاريخ، منذ أن سكنها البوغميل والأرناؤوط، أقدم شعوب غرب البلقان، قبل أن يغزو الرومان البوسنة، ويتصارعوا على منطقة غرب البلقان مع البيزنطيين، وذلك قبل قدوم السلاف إلى المنطقة في القرن السابع، والعثمانيين في القرن الرابع عشر، حيث التقى الطرفان الصرب والعثمانيون، في الحرب على أرض كوسوفو عام 1389. ثم دخل العثمانيون بلغراد، وهيمنوا على المنطقة، ووصلوا إلى البوسنة عام 1463. وفي سراييفو أقاموا الحضارة، ونشروا الثقافة، وعلموا الإنسانية.


كان مبعث هذه النافذة على سراييفو، زيارة الزميل في «الشرق الأوسط» ميرزا الخويلدي للبوسنة قبل بضعة أسابيع، حيث كان يقيم في فندق «هوليوود»، بضاحية اليجا، ولم يكن لديه وقت كاف لزيارة العديد من المدن البوسنية فكانت لنا هذه الجولة السريعة، حيث استقلينا السيارة إلى حديقة فريلوا بوسنة، وفيها نبع نهر البوسنة المتدفق، الذي أعطى اسمه للبلاد بأكملها. ومن عذوبته غذى عذوبتها، ومن جماله أضفى على البلاد والعباد جمالهما. كانت الشمس على وشك الغروب، والجو كان باردا ولذيذا، والمطر ينزل رذاذا كالندى، مما أثر على عدد الموجودين في الحديقة، وقد استعانوا برفع أكتافهم وضمها إلى رقابهم لتوفير بعض الدفء.. بينما بدت بعض الأضواء الخافتة المنبعثة من المقاهي والمطاعم القريبة من النبع العذب، وسط تلك الغابة الغناء، التي داهمها الضباب الذي بدأ يلف المكان في صمت التقطت للزميل ميرزا بعض الصور، وأنا أخفي في نفسي رغبتي في الكتابة عن تلك الجولة، وراودتني فكرة أن أعرض عليه الكتابة في هذا الموضوع لكن سرعان ما وجدتني في مواجهة نرجسيتي.. ألا يكفي؟!.. ربما يريد أن يكتب عن الرحلة أيضا..

 

عدنا إلى الفندق، وفي صباح اليوم التالي، حيث موعد سفر ميرزا إلى المملكة العربية السعودية، توجهنا من الفندق إلى سراييفو، وعند موقف للسيارات، توقفنا كثيرا، فهنا مبنى المكتبة التي أحرقها الصرب في 25 أغسطس (آب) 1992، وإحالة مليوني كتاب و300 مخطوطة من أنفس المخطوطات العالمية، التي لا تقدر بثمن، في مختلف مصادر الثقافة والمعرفة، إلى أكوام من رماد، بين أطلال مكتبة كانت زاخرة بالحياة. المكتبة الوطنية، أو سراييفسكا فياشنيتسا أو «جبل المعرفة» باللغة المحلية، كانت رمزا من رموز سراييفو وأحد مفاخرها، ومن أجمل المباني، احترقت بالكامل في ذلك اليوم المشؤوم. والحقيقة إن حرق مكتبة سراييفو، جريمة لا يعادلها الكثير من الجرائم التي أخذت حيزا كبيرا في وسائل الإعلام الدولية، ووقتا طويلا في الحديث عنها. ففي خلال ساعات قليلة التهمت النيران أعظم الكنوز المعرفية في غرب البلقان عبر التاريخ، وكان من بينها آلاف الروايات، والكتب التاريخية، والرسائل الجامعية، والمعلومات المعرفية.

 

بعد عقود طويلة من الإشعاع خمدت تلك الأنوار بنيران الحقد والكراهية والجهل والتعصب والعنصرية والشيفونية والبربرية المقيتة. لقد كانت المكتبة الوطنية رمزا لسراييفو، وهي بذلك تنافس برج «إيفل» بباريس، وتمثال «الحرية» في نيويورك، وساعة «بيغ بن» في لندن، وحتى «سور الصين»، فالمعرفة هي من صنعت البرج، ونحتت التمثال، وأتقنت الساعة، وبنت السور، والمعرفة كانت مجسدة في مكتبة سراييفو. وهو دليل على إيلاء هذه المدينة قضية المعرفة أهمية قصوى، والحفاظ على التقاليد عناية خاصة، والاحتفاء بالثقافة، سمة لازمة، وهي مفردات الهوية الحضارية لكل أمة من الأمم.

 

أجيال كثيرة ولدت في المدينة، وترعرعت بين أسوار المكتبة الشامخة في الجزء العتيق من سراييفو، ولا سيما الجيل الذي شهد العدوان، وكان شاهدا على إحراق المكتبة.. أي إحراق جزء كبير من الماضي والحاضر، والمستقبل الممتد في الزمن. كانت محاولة لإحراق الذاكرة، وإحراق الرموز، وإحراق الحياة، إذ ما قيمة الإنسان، وما قيمة الحياة ذاتها دون كل ذل؟! لقد أحرق الجيش الصربي سراييفو، بما في ذلك المكتبة الوطنية، وكان التركيز عليها واضحا، بينما لم يمس مصنع إنتاج الخمور الذي بناه النمساويون، وبقي بعدهم دون أي أذى، لأنه في صفهم، بينما العلم، والمعرفة، والتسامح، والثقافة، والإنسانية، كانت ضدهم. لذلك كان هذا أحد أهداف نيرانهم المشتعلة في داخلهم، التي عبروا عنها بإحراق كل من يختلف معهم.. حتى الكتب، بل الكتب ورموز المعرفة، والخير، والحضارة، والمدنية، في مقدمة ضحاياهم.

 

لم يكن هناك ماء كاف لإخماد الحرائق المشتعلة في المكتبة آنذاك، كما لم يوجد ماء لإخماد الحرائق في تاريخ الصرب، أو لغسل العار الذي يتسربلون به، ومنه العار التاريخي المتمثل في حرق المكتبة الوطنية في سراييفو.

 

كان الناس يبكون دما على قصور المعرفة التي كانت تحترق أمام أعينهم، أسماء الأماكن تحترق، أسماء العلماء تحترق، أسماء وخرائط تحترق، تاريخ وعلوم تحترق، وجدران تحترق، تحولت المجسدات المعرفية إلى أثر بعد عين.

 

كان مشهدا يبكي الصخور، تكرر مرارا بعد ذلك كلما دقت صفارات الإنذار في مساء 25 أغسطس من كل عام.. لماذا لا يبكون، والمكتبة كانت حارسا لتاريخ طويل، ومخزنا للعلوم يستقي منه الباحثون والطلبة وأساتذة الجامعات، ويرجعون إليه كلما عنت لهم قضية، أو حفزتهم حادثة على البحث، أو اختلف المثقفون حول مسألة، أو تطلع الراغبون إلى مزيد من الفهم، والتبحر، والتعمق في المعرفة.

 

في سراييفو بنى العثمانيون المساجد، والأسواق المسقوفة، والجسور، والمباني، وأدخلوا نظام توزيع المياه، والصرف الصحي، قبل جميع الدول الأوروبية. ويمثل نصب «السبيل» في قلب سراييفو القديمة، الذي بناه محمد باشا كوكافيتسا سنة 1754 أحد المعالم البارزة في المدينة، إلى جانب نحو 200 مسجد تاريخي في المدينة التي تضم وفي مساحة لا تزيد على 500 متر مربع، أماكن عبادة لديانات مختلفة، هي اليهودية، والأرثوذكسية، والكاثوليكية، والإسلام. فوجود سراييفو في شبه منخفض، تحيط به الجبال، جعلها ملتقى للعديد من عيون المياه الجوفية التي تتبعها العثمانيون، وكشفوا عن 157 منها، صنعوا منها «معجزة مائية» في سراييفو، حيث تم تنظيمها في قنوات، بشكل طبيعي، سنة 1609، وبلغت سنة 1660 من القرن الماضي 110 أماكن للتزود بالماء من خلال الحنفيات التي خصصت لذلك. وقال الباحث الدكتور يوسف راميتش لـ«الشرق الأوسط» إنها ظلت تزود سراييفو بالمياه العذبة، لعدة قرون، وقد تعرضت للإفساد والتدمير في الحقب التي أعقبت الوجود العثماني 1463/1878 في منطقة غرب البلقان، بيد أن الكثير منها لا يزال صالحا، ويستمر السكان في الاستفادة منه. ومن أشهر عيون السبيل في سراييفو، سبيل الغازي خسرف بك، الذي تزامن مع بناء المسجد والمدرسة التي تعرف باسمه حتى اليوم، وقد تم بناؤها عام 1537، وسبيل جامع علي باشا عام 1561، وسبيل جامع باش تشارشيا الذي تم تشييده عام 1528، وسبيل جامع سراييفو، الذي سبق بناؤه (جامع الغازي خسرف بك)، وسبيل كواتشي التي تعود هي الأخرى إلى القرن السادس عشر، وهي اليوم عين جارية تحيط بضريح الزعيم الراحل علي عزت بيغوفيتش (1925/2003).

 

ومن النصب والمعالم التاريخية في سراييفو، برج ساعة جامع الغازي خسرف بك، وهو يقع في مبنى «الإمارة» التابع لأوقاف جامع الغازي خسرف بك، في سراييفو، وقال القارئ والإمام الأول في جامع الغازي الحافظ منصور مالكيتش «جامع الغازي خسرف بك، أكبر المساجد في البوسنة، وقد بني الجامع عام 1537 ويقع بين 4 شوارع. بينما بني مبنى الإمارة عام 1529 وكان مخصصا للأعمال الخيرية، وبه مطعم خيري للطلبة وضعاف الحال والفقراء والمسافرين المعدمين، ويحتوي على بيت ضيافة يستطيع المسافر الإقامة فيه لمدة 3 أيام دون مقابل». وحول الساعة القمرية أفاد قائلا «في القرن السابع عشر تم تشييد برج الساعة، الذي أعيد ترميمه سنة 1762 مع المرافق الأخرى، بعد الحريق الذي أشعله النمساويون في سراييفو، بقيادة يوغين سفويسكي». وتابع «تعمل الساعة وفق التقويم القمري، وهو ما يعني أن يوما جديدا يهل على العالم، مع كل غروب شمس». ويلاحظ أن معالم سطح الساعة، أو واجهة الساعة، متجهة إلى النواحي الأربع، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. وفي عام 1875 تم جلب آليات جديدة للساعة من لندن، وأثناء التركيب تم إضافة الجزء العلوي من الساعة، التي تغير آليات عملها باستمرار خلال السنة لتواكب مواقيت التقويم القمري. ويقوم موظف يطلق عليه «المؤقاتي»، بتنظيم آليات عمل الساعة، التي تشير عند كل غروب إلى الساعة الثانية عشرة.

 

ورغم أن سراييفو (نصف مليون نسمة) ليست مدينة كبيرة مقارنة بالمدن الكبرى الأخرى، فإنها تشد الزائرين، ويجبر سحرها الغامض الكثير منهم على البقاء فيها. ومن بينهم عرب وأتراك وإيرانيون، وأميركيون، وألمان، وإيطاليون، وفرنسيون، وإسبان، وغيرهم، يعيشون في سراييفو منذ 15 عاما وأكثر. وبعضهم أقام تجارة صغيرة، كالأميركية كيسي فانييت، بمركز «بي بي آي» للتسوق، من أجل كسب مردود يغطي نفقات الإقامة في سراييفو.. والسياسي الألماني المخضرم، والمبعوث الدولي السابق إلى البوسنة، كريستيان شيلينغ، الذي بنى فيللا على بحيرة يابلانيتسا، القريبة من سراييفو.. والباحث الأكاديمي التركي، مهمد جان، الذي يعمل في سراييفو منذ عدة سنوات، ويمني النفس بأن يعيش ويدفن فيها.

 

عشت في سراييفو أكثر من 10 أعوام، سكنت في العديد من أحيائها، وحفظت جميع شوارعها، وشربت من مائها، وأعجبني مطبخها، القريب جدا من المطبخ الشرقي، ولا سيما التركي، ولغتها التي تحتوي على الكثير من الكلمات العربية.. حق، ظلم، فائدة، دعاء، إنسان، جيب، وغيرها من الكلمات المأخوذة من العربية، وخاصة المتعلقة بالأمور الدينية. تجولت في أحيائها، واستمتعت بمناظرها الخلابة، أعجبت بناسها الطيبين، المحبين للعرب، وجميع المسلمين، بل جميع الناس، لا سيما عندما يقولون لك «فيستي ناشا» بمعنى «أنتم أهلنا». يسرهم ما يسرنا، ويحزنهم ما يحزننا، ويألمون لألمنا، ويتابعون باهتمام بالغ ما يجري في العالم الإسلامي. لم يخل يوم من سؤال أحدهم عما يحدث في تونس، أو مصر، أو الخليج، أو أوزباكستان، وغيرها.