{هامتون كورت} 500 عام من القصص المثيرة
أين تقع غرف الملك هنري الثامن؟ أين عاشت زوجاته؟ أين كان يأكل؟ أسئلة كثيرة طُرحت تطرأ على ذهن الزائر لقصر هامتون كورت في جنوب غربي لندن الذي ارتبط بسيرة الملك هنري الثامن أكثر من أي مكان آخر في بريطانيا. وفي الفترة الأخيرة أسهمت كثرة الأعمال الأدبية والتلفزيونية حول سيرة هذا الملك في ارتفاع نسب الزوار. ولكن هامتون كورت، كما يحب المسؤولون عن القصر تذكيرنا، ارتبط بعدد آخر من الملوك والملكات، ويحمل في أرجائه الكثير من اللمحات المعمارية والفنية التي ترتبط بتاريخ عريق. في زيارة خاصة لقصر هامتون كورت الذي يحتفل هذا العام بـ500 عام على إنشائه كان هناك الكثير من الملامح والغرف، وأيضا القصص التي تجعل من المكان بمثابة كنز ثمين. شملت الجولة زيارة الغرف الرئيسية الملكية ولكنها أيضا ذهبت بنا لأبعد من ذلك؛ فكانت هناك جولات لمركز صيانة وترميم الملابس التاريخية الملحق بالقصر، ومنه لسطح القصر الذي يفتح أبوابه للزوار أيضا، أما طعام الغذاء فكان مستوحى من تاريخ 500 عام في مطابخ القصر.
* لمحة تاريخية
القصر بناه كاردينال والزلي أحد أخلص أتباع الملك هنري الثامن في عام 1515، وحسب الروايات التاريخية فكان والزلي يبني قصرًا يليق بمكانته كأرفع شخصية دينية في إنجلترا، وأيضا ليكون مكانا ملائما لضيوفه من الملوك والنبلاء، وحسب تلك الروايات فقد أعجب الملك هنري الثامن بالقصر وقام والزلي بإهدائه له. هامتون كورت يحمل في جوانبه الكثير من القصص والروايات التاريخية، وارتبط بملوك وملكات آخرين عبر تاريخه الممتد لـ500 عام، حتى أصبح ضمن أملاك الملكة إليزابيث الثانية، ويُدار بواسطة مؤسسة «القصور الملكية التاريخية» (رويال هيستوريكال بالاسيس) اللاربحية، والتي تعني أيضا ببرج لندن وكينزنغتون بالاس وكيو بالاس. وخلال الجولة التي امتدت لست ساعات (دون أن تحيط بكل أرجاء المبنى الشاسع) اصطحبنا دان جاكسون القيم على مباني قصر هامتون كورت في جولة غير اعتيادية، بدأها من ساحة القصر حيث تطرق لبناء القصر في 1515، وانتقاله لملكية هنري الثامن ليصبح مقره الأثير، وتطوره بعد ذلك ليصبح مقر الحياة الملكية على مدى 200 عام. وحسب ما يُذكر لنا جاكسون؛ فالقصر حسب خطة البناء التي اعتمدها والزلي كان يحتوي على 30 جناحا وثيرا ملأت بالسجاجيد وأواني الفضة واللوحات الضخمة. القصر وملحقاته يعد مثالا على البناء في عصر التيودر، وأحد أبرز العناصر المميزة له، حسبما يذكر جاكسون، هو حب الألوان ونرى مثالا لها في القاعة الكبرى «ذا غريت هول»، حيث تغطي الحوائط منسوجات ضخمة تصور قصصا دينية وشخصيات من الإنجيل كلها منسوجة بالخيوط الملونة. المنسوجات التي قاومت تأثير الزمن لا تزال تحتفظ برونق خاص وإن كانت ألوانها قد بهتت لحد كبير، يشير جاكسون إلى أنها أيضا كانت مشغولة بخيوط الذهب: «لكم أن تتخيلوا البريق واللمعان الذي كان ينعكس من هذه اللوحات الرائعة في النهار في ضوء الشمس وعلى ضوء الشموع بالليل. إضافة لذلك فإن السقف حافل بالرسومات الملونة بالألوان الذهبي والأزرق والأحمر والنوافذ ذات الزجاج الملون»، ويلفتنا هنا إلى أن النوافذ أمامنا ليست التي عاصرت الملك هنري الثامن، وإنما نوافذ وضعت في القرن التاسع عشر.
القاعة الكبرى لا شك من أهم الغرف التي يمكن زيارتها في هامتون كورت، ومن اسمها قد يهيأ لنا أنها كانت مخصصة للمناسبات الملكية، ولكن في الحقيقة فإن تلك القاعة كانت مخصصة لموائد العشاء لمن هم دون طبقة النبلاء، فالملك وحاشيته كانوا يتناولون العشاء في الغرف الخاصة، وبالتالي تتناول بقية الحاشية والضيوف وجباتهم في القاعة الكبرى التي كانت تسع 600 شخص. ولكن القاعة أيضا كانت مكانا لاستقبال السفراء والوفود الذين يتجهون بعدها لجناح الملك. اللوحات الجدارية صممت للقاعة، وقام هنري الثامن بإصدار التعليمات بنسجها في 1540، وتذكر للمرة الأولى في الوثائق، حيث كانت تزين جدران القاعة أثناء استقبال الملك هنري للسفير الفرنسي في عام 1546. من القاعة الكبرى نجتمع في حجرة خاوية شهدت مولد الأمير إدوارد وريث الملك هنري الثامن من زوجته جون سيمور، ويروي لنا مرافقنا قصة ترتبط بها «تعسرت ولادة الأمير إدوارد، ومرت الأم جين سيمور بلحظات عصيبة، ولجأ طبيب القصر للملك هنري ليخبره عن الحالة الصحية الحرجة للأم، ولكن هنري المعرف بقسوته قال: (ما يهمني هو الطفل، ستكون هناك ملكة أخرى)». خلال الجولة نسمع جلبة وأصواتا، ويمر من أمامنا شاب يرتدي ملابس تاريخية من عهد التيودور يقود وراءه مجموعة من الأطفال، ويبدو وكأنهم في مغامرة للبحث عن كنز، يقول مرافقنا إن ذلك من ضمن فعالية استحدثت للعائلات بعنوان «تايم كويك»، حيث تزور المجموعات أجزاء من القصر ويلتقون من خلالها بشخصيات تاريخية يقوم بتقمصها ممثلون. يشير جاكسون إلى أن تلك الفعالية ليست الوحيدة الموجهة للعائلات والأطفال تحديدا؛ فهناك في الحديقة الأمامية الشاسعة نجد نماذج لعربات ملكية كل منها تمثل عصرا محددا، وهي موضوعة للأطفال الذين يمكنهم ركوبها واللعب داخلها.
نمر بالمدخل الرسمي للقصر حيث يستقبلنا بهو واسع وسلالم تؤدي لغرف الملك، البناء صممه المعماري الشهير كريستوفر رين ويضم لوحات جدارية هائلة. من المدخل إلى حجرة الأسلحة التي زينت بصفوف من البندقيات والمسدسات اليدوية والخناجر، قبل أن نلتقط كل تفاصيل الحجرة يشير جاكسون إلى أحد الجدران، ويقول: «هنا كان يوجد باب خفي يؤدي لدرج داخلي يفضي للغرف الخاصة بالقصر، وبالفعل يفتح لنا الباب الذي أخفي بمهارة شديدة»، ولكن خلف ذلك الباب لم يكن هناك ممر فقط جدار آخر بدا أنه وضع لإغلاق ذلك الممر: «هذا الجدار وضع لاحقا ومن الناحية التاريخية يخبرنا عن التغييرات المعمارية التي أجريت هنا على مر السنين». نعود لحجرة الأسلحة أو «غرفة الحرس» كما يطلق عليها، حيث كان الحرس الملكي يقوم بالتأكد من الداخلين للقصر والتأكد أيضا من أن الزوار يرتدون ملابس ملائمة قبل السماح لهم بدخول قاعة الاستقبالات. نمر على القاعة الملكية الخاصة التي كان الدخول لها يقتصر على رجال الدولة والملك ورجال البلاط، ومنها يمكن النظر للأسفل نجو الحديقة الخاصة الباذخة. أما حجرة النوم التي تتميز بالسرير الوثير الذي تلفه الستائر والمظلة العلوية فلم تكن تستخدم للنوم؛ فهي حجرة يستخدمها الملك لتغيير ملابسه بمساعدة الخدم ثم يدلف لغرفة النوم الأصغر وهي ملحقة بها.
* مركز الترميم
الجولة هنا لا تمر بنا على جميع أجزاء القصر الملكي، ولكنها تأخذنا لأماكن مختلفة من القصر مثل مخازن القصر التي يحتفظ فيها بقطع أثرية من المفروشات إلى قطع من الأحجار التي تساقطت عبر الزمن، وهنا يقوم الخبراء بترميم بعضها ودراسة الأجزاء الأخرى التي تضيف إلى القصص الكثيرة المرتبطة بهامتون كورت. مثل قطعة سقطت من غاليري بناه الكاردينال ولزلي. في البداية يقول جاكسون إن القطعة واحدة من 160 قطعة أخرى في المركز «مثل هذه القطع تخبرنا الكثير عن المواد التي استخدمت في البناء في ذلك الوقت وأيضا تمكننا من تصور شكل تلك القاعة إذا لم يبقَ لنا صور أو وثائق حولها». قطعة أخرى تبدو وكأنها سقطت من قوس حجري فوق باب جناح زوجة هنري الثامن، وهو ما يتضح من الشعار المنحوت فوق القطعة، هناك أيضا عدد من القطع الحديدية التي تساقطت من بوابة تيجو الموجودة في حافة الحديقة الخلفية وتؤدي إلى النهر.
* 500 عام من الطعام الملكي
في وقت الغداء يصاحبنا مارك ميلتونفيل وهو مؤرخ تاريخ الطعام، يشرح لنا مقومات المائدة لدى هنري الثامن وباقي الملوك الذين تواتروا على هامتون كورت على مدى 500 عام. الحديث يجذب اهتمام الموجودين، ويبدو أن الطعام له جاذبية خاصة لا تقاوم، وسرعان ما تنهال الأسئلة على الخبير الذي يبادر بالقول: «أكثر ما يتعبني هو السؤال الذي يطرحه الكثيرون علي: (صف لنا أكلة غريبة كانت تقدم في عهد التيودور)»، في الحقيقة لا يوجد، يمكن أن أقول إنه «روست بيف» ولكن هناك من سيقول بأنه أكله حديثة ولكنها في الحقيقة ليست كذلك. فالروست بيف كان يقدم على مائدة الملك هنري الثامن وموائد الملوك من بعده، الأكلة وصلت إلينا عبر الأزمان بسبب شعبيتها. قائمة الطعام التي أعدها لنا ميلتونفيل تضم الروست بيف والخضار المتنوع إضافة إلى فطيرة البطاطس. في مطابخ القصر هناك ممثلون يقومون بشي لحم العجل على نار الموقد الحجري الضخم «هذا كان أحد أهم الأطباق في هذا القصر لسنوات طويلة، وتعد الحجرة المخصصة للشي داخل المطابخ هي الأكبر». اللحم المشوي لم يكن متوفرا للجميع حينذاك «لا يستطيع جميع الأشخاص شراء اللحم ولكن القصر الملكي كان يقدمه كل يوم»، الشواء كان يقدم مع مجموعة من «الصوصات» المفضلة وقتها، منها صوص الخردل التي كانت تصنع بهرس بذور الخردل مع فتات الخبز والخل. اللحوم التي كانت تقدم في فترة الملك هنري الثامن كانت لحوم أبقار وعجل وأسماك وأيضا الطاووس. ولكن الطاووس كان يقدم للاستعراض غالبا حيث يتم فصل الجلد والريش كاملا عن الطائر ثم يعاد وضعه عليه بعد طهيه. أما بالنسبة للخضراوات فقائمة الطعام أمامنا تضم خضراوات من حديقة المطابخ.
طقوس الأكل نفسها تبدو شيقة، فحسب الروايات التاريخية كان الملك هنري الثامن يحرص على غسل يديه قبل الطعام وأثناءه وبعده، ويوضع جانبه على الطاولة إناء به بعض الماء الدافئ. أما بالنسبة لضيوف العشاء فيجب عليهم التوجه لأحد أركان الغرفة، حيث توجد المغسلة لغسل أيديهم قبل اتخاذ أماكنهم على الطاولة، ويضع كل منهم قطعة قماش على الكتف أو على المعصم لمسح اليد. وجرت العادة على أن يحضر الضيوف أدوات تناول الطعام معهم، مثل السكاكين التي تختلف بحسب الطبقة الاجتماعية ومستوى الغنى من شخص لآخر. الأطباق تقدم على المائدة الرئيسية وتوضع في المنتصف وعلى كل ضيف أخذ بعض الطعام في طبقه وتقطيعه إلى قطع صغيرة، «من غير المستحب أكل اللحم حول العظم، فيجب تقطيع اللحم من حول العظم ووضعه في الطبق، فالعظام تعطى للحيوانات». أما مواعيد الوجبات فهي في الحادية عشرة صباحا وفي السادسة عصرا، وكانت تقدم في الصالة الكبرى للحواريين والنبلاء في القصر ويصل عددهم لـ600. أما طعام الملك فيمر أولا على الخاصة الملكية، بعد أن يقوم الطاهي الأول بتذوقه حتى لا يكون مسموما أو فاسدا وبعد ذلك يقدم للملك. وحسب دفاتر الحسابات في القصر، فكان المطبخ يتلقى سنويا 8200 خروف، 2300 غزال، إضافة إلى أعداد ضخمة من الطيور والدواجن.
* مركز الملابس الملكية
بعد الغذاء تتاح لنا فرصة فريدة لزيارة مركز صيانة وحفظ الملابس التاريخية الملحق بالقصر، حيث تعرض لنا نماذج من الملابس التي يقوم المركز باقتنائها من المزادات. يقدم لنا ماثيو ستوري القيم بالمركز نبذة حول الموجودات وأسلوب حفظ الملابس التي لا نراها مكشوفة؛ فكلها مغطاة ومحفوظة في غرف مظلمة، «الضوء هو العدو الأول للملابس؛ فهو يؤثر على الأنسجة»، من النماذج التي تعرض لنا بدلة مزركشة لشاب في مقتبل العمر أعدت فيما يبدو للقاء الملك «من الطقوس الصارمة في البلاط الملكي مرور الزوار على الحرس الملكي أولا للتأكد من ملاءمة الملابس لحضرة الملك، ولهذا فبدلة مثل هذه تعتبر استثمارا جيدا يسمح لصاحبه بالاختلاط مع النبلاء والأمراء»، من القرن العشرين نرى فستانا من تصميم دار لانفان لسيدة أرستقراطية ارتدته في مناسبة تقديم ابنتها في البلاط الملكي، هناك أيضا فستان للأميرة الراحلة ديانا ارتدته في عام 1992. والمفاجأة التي يعرضها لنا ستوري بفخر قبعة حمراء يقال إنها كانت ملكًا للملك هنري الثامن. المجموعة متاحة لمن يريد رؤيتها من الزوار والباحثين والمصممين، يجب فقط حجز موعد سابق.
* نظرة أعلى السطح
تتاح فرصة للصعود لسطح القصر لرؤية الحدائق والأماكن المحيطة، يتخوف البعض منها ولكن أغلب المجموعة تصعد بمرافقة القيم على مباني القصر ويجب القول هنا إن المنظر هناك يأخذ بالألباب فعلا، فعلى مد البصر نرى مداخن القصر التي تتميز بجمال صنعها وطرافتها وجمالها، أما الحدائق الممتدة حتى النهر فتمثل متعة لا حدود لها. الزيارة للسطح أيضا متوفرة للزوار، ولكن بحجز سابق ولأعداد محددة.
أماكن أخرى تستحق الزيارة في هامتون كورت:
- «كمبرلاند أرت غاليري»: يضم مجموعة من روائع الفن العالمي منها لوحات لرمبرانت وغاينوبورو وكارافاجيو وكاناليتو.
- «المتاهة»: بنيت للملك ويليام الثالث في عام 1700 وتمتد على مساحة ثلث قيراط.
- ملاعب التنس في «هامتون كورت»: أقيمت في عام 1529.
للمزيد من المعلومات: