شهد تداول الصحف المطبوعة في الولايات المتحدة وأوروبا انخفاضاً شديداً على مدار الأعوام الخمس السابقة، وعلى المستوى الدولي، شهدت السوق الدولية لإعلانات الصحف المطبوعة انخفاضاً بنسبة 3% خلال النصف الأول من عام 2010 مقارنةً بالنصف الأول من عام 2009. في حين ارتفع معدل الإنفاق على إعلانات الوسائل الرقمية بنسبة 8% خلال نفس الفترة الزمنية. وفي الوقت الحالي، تقف جهات النشر بمنطقة مجلس التعاون الخليجي على شفا تحول كبير من شأنه تطوير وتحويل عملها وهو التحول من الإعلام المطبوع للإعلام الرقمي. ومن المتوقع ظهور نقطة التحول المنشودة والتي يتوجه من منطلقها الاهتمام الجماعي بالإعلام الرقمي خلال الأعوام القليلة القادمة، ولذلك فإن الإبقاء على الوضع الراهن ليس البديل الأمثل لجهات النشر.
ولا شك بأن ناشري الصحف المطبوعة في المنطقة محظوظون لأنهم لم يلاقوا نفس المصير الذي لاقاه نظرائهم في الأسواق الأخرى. فمنذ عام 2007، توقع العديد من محللي وسائط الإعلام أن نقطة التحول من المطبوع إلى الرقمي ستأتي قريباً، وسيتزامن ذلك مع استمرار زيادة معدلات تغلغل خدمات البرودباند في المنطقة حتى تتناظر مع معدلات الأسواق المتطورة. ومع ذلك، لم تثبت هذه النظرية بعد على الرغم من الزيادة الفعلية في تغلغل خدمات البرودباند في الإمارات وقطر والسعودية بشكل متناظر مع البلدان الغربية.
وفي هذا الأمر، يقول جبرائيل شاهين، أحد الشركاء بشركة بوز أند كومباني "ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التغلغل، فإن الصحف المطبوعة لم تتأثر من ناحية المقروئية والدخل الإعلاني. وخلال عام 2010، بلغت مبيعات الصحف المطبوعة في قطر والسعودية والإمارات إجمالي يصل إلى 3.23 مليار نسخة ، وتمثل هذه المبيعات وجود زيادة قدرها 2% عن عام 2008". وفي المملكة العربية السعودية، تتعدى معدلات تغلغل الصحف المطبوعة نسبة الـ70% من إجمالي القراء. ذلك بالإضافة إلى بقاء معدلات إعلانات الصحف المطبوعة قوية ومرتفعة كما هي. وبلغت حصة الصحف المطبوعة في السعودية 54% من صافي إجمالي مصروفات الإعلانات لعام 2010. واختصاراً، لا تزال جهات التسويق و القراء في المنطقة يستخدمون الصحف المطبوعة على الرغم من انتشار استخدام خدمات البرودباند.
لماذا لم تتحقق توقعات التحول للإعلام الرقمي حال الوصول لمستويات إنتشار البرودباند المماثلة لتلك في أسواق أوروبا و الولايات المتحدة ؟ بتقديرنا يرجع تأخر عملية التحول إلى ثلاثة عوامل: محدودية مصادر لأخبار الرقمية، وقلة توفر الأجهزة الرقمية الملائمة كالهواتف الذكية، والبنية التحتية لخدمات البرودباند الثابت غير المثالية لاستهلاك الكثير من أنواع المحتوى الرقمي. ولكن سيتغير هذا الوضع بحلول السنوات القليلة القادمة وسيرجع ذلك للتغييرات المرتقبة في كل من هذه المجالات. وما بين نمو معدلات الإعلانات الرقمية وانخفاض أسعار الهواتف الذكية، ستظهر بعض العناصر التي ستؤدي إلىالتحول إلى الإعلام الرقمي المنشود.
وتحدث في هذا الشأن جايانت بارجافا، أحد المدراء بشركة بوز أند كومباني قائلاً، "قد تبدو هذه الأخبار سيئة للبعض ولكن يجب أن يطمئن ناشري الأخبار المطبوعة في المنطقة لحقيقة واحدة ألا وهي أنهم سعداء الحظ مقارنةً بنظرائهم في الأسواق الناضجة ويرجع ذلك لعدم تفاجئهم بتبني الأخبار الرقمية في المنطقة. بل في الواقع، الفرصة متاحة أمامهم لمعرفة ما هو قادم والاستعداد له". ولكن الأمر الأكثر وضوحاً الآن، هو أن الناشرين بالمنطقة لا يحتاجوا أن يكونوا رواد الإعلام الرقمي، أو أن يستثمروا الوقت ورأس المال، أو أن يكونوا مرغمين على إتباع منهج التجربة والخطأ لتحديد النماذج الناجحة وغير الناجحة فيما يتعلق بالإعلام الرقمي. وعوضاً عن هذا، لدى الناشرين فرصة إتباع إستراتيجيات مستوحاة من الدروس المستخلصة من ناشري الصحف المطبوعة في الأسواق الناضجة.
ومن ناحية، ستقع الأولويات القصوى للناشرين بالمنطقة على مدار العامين القادمين تحت فئتين: إعادة توزيع الموارد من الإعلام التقليدي للإعلام الرقمي من خلال تحسين تكاليف التحرير والإنتاج؛ واستخدام هذه الموارد لبناء قدرات المحتوى الرقمي ومبيعات الإعلانات الرقمية.
ومن ناحية أخرى، ستقع الأولويات طويلة الأجل تحت فئتين: معرفة نماذج العمل الناجحة وتلك غير الناجحة. ويوجد إجماع واضح على نماذج العمل غير الناجحة، ووضح هذا الأمر عامر لحام، أحد كبار الاستشاريين بشركة بوز أند كومباني قائلاً "من الأرجح أن تفشل الإستراتيجية البسيطة القائمة على مجرد عرض المحتوى المطبوع رقمياً ومحاولة تحصيل مقابل عليه. حيث أوضح استطلاعنا حول مستهلكي الأخبار الرقمية أن 74% منهم رفضوا دفع أي مبلغ مقابل المحتوى الرقمي بخلاف المحتوى المعني ببعض الفئات الإخبارية المحدودة مثل الرياضة والأخبار العاجلة. وتم التوصل لهذه النتيجة من خلال تجارب الناشرين في الأسواق الأخرى".
وتوضح التجارب المختلفة المستخلصة من أسواق الإعلام الأخرى أن لدى الناشرين أربع نماذج للعمل لتمييز المحتوى الرقمي عن المطبوع ، وبالتالي إقناع القراء بجدوى الدفع مقابل الحصول على المحتوى الرقمي ، وتتمثل هذه النماذج في التالي:
1.توفير المحتوى الغني و الفريد : حتى يكون المحتوى ذو قيمة يحب أن يتم التفريق بينه وبين المحتوى الموفر دون مقابل. ولتلبية هذا الغرض، يتحتم على الناشرين التخصص في محتوياتهم الرقمية من خلال استحداث محتويات تركز بشكل معمق وفريد على بعض المجالات المحددة مثل الأعمال أو الصحة أو الرياضة
2.توفير المحتوى والتطبيقات ذات الصلة: ومن الوسائل الأخرى للتفريق بين المحتويات الرقمية وتبرير تكلفتها هو عرض نفس المحتوى المطبوع ولكن من خلال التطبيقات التي تضمن تجربة غنية مثيرة للمستخدم.
3.توفير المحتوى مع الخدمات المكملة : إن إضافة بعض الخدمات المميزة و والمكملة للمحتوى بهدف تلبية الاحتياجات الفردية من شأنه تحسين مستوى القيمة التي سيحصلها القارئ
4.توفير المحتوى مع الخدمات والمنتجات التي توفر من خلال شراكات مع جهات أخرى : قد تتشارك جهات النشر مع جهات خارجية لتقديم بعض المنتجات والخدمات الإضافية في سبيل استحداث عروض ومحتويات رقمية مبتكرة ومتكاملة
وبينما يقوم ناشري الصحف التقليدية المطبوعة في المنطقة بوضع جدول أعمالهم للسنوات القادمة، ستتاح أمامهم الفرصة لمراقبة تطور سوق الأخبار الرقمية في أجزاء أخرى من العالم. حيث عانت صناعة الأخبار المطبوعة في هذه المناطق بصورة كبيرة نتيجةً لعدم التكيف سريعاً مع متطلبات الإعلام الرقمي، حيث شهد الناشرين انخفاضاً شديداً في مقروئيتهم من ناحية، وانخفاضاً في حصة دخلهم الإعلاني من ناحية أخرى مما أدى إلى تراجع إيراداتهم تراجعاً شديداً. وتسبب ما سبق في معاناة شديدة للموظفين والمديرين والأطراف المعنية. ولذلك، فهناك فرصة نادرة متاحة أمام الناشرين بمنطقة مجلس التعاون الخليجي لتجنب تكرار هذه التجارب أو المرور بها. واختتم جبرائيل شاهين هذا الأمر قائلاً، " إذا رغب الناشرين في منطقة مجلس التعاون الخليجي في حماية وضعهم في السوق والإبقاء على أرباحهم والتنافس في العالم الرقمي، سيتحتم عليهم العمل فوراً نحو الاندماج في السوق الرقمي".