أعلى

 

 

قال عنها الرسام الفرنسي دولاكروا: أحتاج إلى 20 يدا لأعطي فكرة عن كل هذا

 

بعد فترة من الترهل والنسيان شرعت طنجة في استعادة موقعها، كمدينة لها نكهة خاصة، تجمع بين عراقة المغرب وأجواء البحر الأبيض المتوسط، وأول يابسة في القارة الأفريقية، مع نفحات الشمال الأوروبية، وهي المدينة التي كانت من قبل تعتبر القبلة السياحية الأولى، بل المدينة الدولية في المغرب، حيث كانت تخضع لحكم عدة دول.
كثير من الفنادق والمطاعم تشيد الآن أو يعاد ترميمها، حركة دؤوبة لتنظيف الشواطئ وعصرنة معالم المدينة، ومن ذلك تحويل الميناء القديم الذي بات الآن خارج المدينة إلى ميناء ترفيهي، وإعادة الاهتمام بالآثار التاريخية.

 

طنجة هي بوابة المغرب الأقصى وأقرب مدينة أفريقية إلى أوروبا، إذ لا يفصلها عن جنوب إسبانيا سوى 14 كيلومترا يمكن قطعها في أقل من ساعة زمنية، وجوا في دقائق معدودة، وهو ما جعلها، منذ تأسيسها في القرن الرابع قبل الميلاد، موضوع نزاع بين القرطاجيين والبرتغاليين والإنجليز والإسبان، نظرا لموقعها الاستراتيجي عند ملتقى الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وأهم الطرق البحرية العالمية.

 

«طنجة العالية» بتاريخها العريق وتميز موقعها الجغرافي، كانت حاضرة في عدد من الأفلام العالمية، وهي المدينة التي استقر فيها كتاب ورسامون وفنانون أمثال أوجين دولاكروا وبيير لوتي وماتيس وجان جينيه وبول بولز.، وتنيسي ويليامز. وهم وجدوا في عالمها المتغير مصدرا للبهجة والتألق، يوفر الكثير من أجل الإبداع والتأمل.

 

في طنجة كل شيء يبدأ من البحر ويؤدي إلى البحر، إذ بوسع عشاقها أن يسبحوا صباحا في المحيط الأطلسي وبعد الظهر بالبحر الأبيض المتوسط، ومن سور «المعجازين» في قلب المدينة، يمكنك الاستمتاع بمنظر الميناء، وهو يستمد بهاءه من امتداد المياه الخضراء والزرقاء في مضيق جبل طارق، وعلى مرمى البصر تظهر الأندلس القرمزية عند مغرب الشمس. لا تشتهر طنجة بفنادقها الرفيعة وشققها الفاخرة، أو ما يعرف بالإقامات السياحية، ومعالمها السياحية، بل أيضا بما يوفره سكانها للسياح من شقق وغرف للإيجار، وكذا بأسواقها والضوضاء والجلبة التي تشتهر بها هذه الأسواق، التي تمتلئ بحشود مختلفة من البشر، مثل سوق «الفندق» و«القصبة» و«السوق الكبيرة» وهي السوق المحببة إلى «بول بولز»، حيث تمتزج فيها أصوات مطارق الصناع التقليديين بصياح بائعات بدويات يتميزن بقبعاتهن المزينة بألوان الثمار.

 

وسحر طنجة يكمن كذلك في الحدائق الجذابة التي تظللها أشجار التين المعمرة ويصل عمرها إلى عقود في «حدائق المندوبية» أو «حدائق السلطان».

 

وهناك أيضا ألوان الزهور المغرية والقهوة المثيرة في قصر «دار المخزن» الذي شيد في القرن السابع عشر، ويشتهر بالقباب الرخامية وسقوفه الأرزية وديكوراته المزينة بالفسيفساء التي تضم متحف الفنون المغربية العتيقة والحديثة. وبعيدا عن ضوضاء المدينة، وعلى بعد 10 كيلومترات شرق المدينة، عبر طريق ساحلي جبلي مكسو بأشجار الكلابتوس والبلوط، يوجد رأس «مالباطا»، الذي يبدو منه منظر البحر وطنجة والمضيق كأنهم جميعا في تناغم ساحر أخاذ.

 

أما إذا تحولت إلى الاتجاه نحو الشمال الغربي من طنجة أو مدينة «البوغاز» كما يطلق عليها المغاربة، وسلكت مسارا جبليا جميلا ملتويا بين التلال، سيصادفك «سبارتيل» أو «منطقة الموت» كما كان يطلق عليه سابقا، وهو الرأس الجبلي الأقصى لأفريقيا الذي يتعانق أمامه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والذي بنيت عليه في بداية القرن التاسع عشر منارة «كاب سبارتيل»، بأسلوب هندسي أندلسي وزخرفة مغربية بديعة، لتوجيه وإرشاد قوارب الصيادين والبواخر العابرة لهذه المنطقة التي شهدت حوادث مميتة خلال قرون من الزمن.

 

وعلى بعد بضعة كيلومترات في نفس الاتجاه، يخوض التاريخ غمار أسطورة مغارة «هرقل»، وهو موقع طبيعي أثري يعود تاريخه، حسب نتائج الأبحاث التاريخية التي أجرتها عدة معاهد مختصة في البحث الأثري، إلى أزيد من 5 آلاف سنة قبل الميلاد، حيث صنف بذلك تراثا إنسانيا في ملك الذاكرة الجماعية العالمية. وتستمد مغارة «هرقل» قيمتها السياحية والتاريخية، من خلال وجودها بمحيط غني بمواقع أثرية جميلة، كموقع مغارات «الخيل» و«كوطا»، التي تشهد بدورها أن الإنسان استقر وعاش بهذه المنطقة منذ أزيد من 7 آلاف سنة.

 

وما يزيد المغارة جاذبية، تلك الفتحة الطبيعية التي شكلتها عوامل التعرية البحرية، ورسمت صدفة بواجهتها خريطة تشبه القارة الأفريقية معكوسة، حيث أضحت هذه الفتحة تطغى على مخيلة كل عاشق لمدينة طنجة، أكثر مما تمثله المغارة كموقع أثري وسياحي.

 

طنجة باختصار هي وجوه كثيرة ومزيج من إغراءات البحر والتاريخ وهي الآن تتجدد وتتجمل من أجل جذب المزيد من السياح، بعد أن بقي يلفها النسيان سنوات. وطنجة هي المدينة التي قال عنها الرسام الفرنسي أوجين دولاكروا، عند زيارته لها في القرن التاسع عشر: «أحتاج إلى عشرين يدا لأعطي فكرة عن كل هذا الذي هنا».