أعلى

 

في مطعم "سباكتروم" في المنتجع الشاطئي الفاخر "فيرمونت" في عجمان بدولة الإمارات، يرتحل الزبائن الذواقة بين ثقافات المطبخ الأوروبي والتركي والعربي والآسيوي والهندي، في يوم الجمعة من كل أسبوع. وتفوح من بعيد عطرية تخالك بين الجوز ودقيق القمح والبهارات. إنه طبق "الباستا" على الطريقة التركية، المعروفة باسم "اريشتي". لكنه ليس مجرد طبق آخر، بل تاريخ طويل ربما يعود إلى مئات أو آلاف السنين.

 

سيدة المصنع
 في العام 1836، أظهرت السيدة الأجنبية الآتية إلى القسطنطينية جوليا باردو، تأثراً كبيراً لزيارتها إلى "المصنع الإمبراطوري للمعكرونة"، الكائن في ثكنة في السليمية، في شمال أوسكودار، في الجانب الآسيوي من المدينة. في كتابها "مدينة السلطان" تقول: "كانت القاعة الكبيرة التي وقفنا فيها مغطاة تماماً بحبال من المعكرونة، طوقت بواسطة المطابع والبكرات". مرة أخرى في القرن الثامن عشر، علق مؤرخ القصر أحمد جافيد، في اسطنبول، على ظهور كثيف في المدينة لمنتجات من البندقية وقبرص وكريت مصنوعة من العجين، على غرار المعكرونة التركية التقليدية، التي ذكرها تحت اسم "اريشتي". في ذلك الوقت، كانت تلك الوجبات السريعة المستوردة، يتم استهلاكها بشكل شعبي واسع، حتى أفقر الأسر. وعلى الرغم من ذلك الانتشار، فإن "الريشتي" لم تكن قد أصبحت بعد صنفاً تجارياً على غرار إيطاليا.

 

عبر البحار
 ولكن متى ظهرت "المعكرونة" لأول مرة في بلاد الأتراك؟ وكيف انتقلت من إيطاليا إلى بلاد الإمبراطورية؟ لا نعرف التواريخ الدقيقة بشكل مثبت، لكن الحكاية، ستعود، من دون شك، إلى الشغف الأول في نقل قطع العجين المغذية تلك عبر البحار. نحن مدينون بالطبع في جميع أنحاء العالم لإيطاليا، حين يتعلق الأمر بالمعكرونة. وأشكال لا حصر لها ما زالت تروج إلى اليوم بأسمائها الإيطالية. ويبدو أن تجارة المعكرونة قد بدأت في وقت مبكر. فعالم الجغرافيا العربي في العصور الوسطى الإدريسي، ذكر سنة 1150، في تقارير حمولات السفن، أنواعاً من الجدائل "العطرية"، وهي نوع من أنواع المعكرونة المجففة، والتي كان يتم إرسالها من باليرمو، العاصمة القديمة للإمارة العربية في صقلية، إلى "كل البلاد المسلمة والمسيحية". في الزمن الوسيط أيضاً ذكر جندي من جنوة عام 1279 قوائم الطعام التي بحوزته، وذكر فيها "المعكرونة". في زمن الإمبراطورية العثمانية، أصبح الاستيراد الأجنبي جزءاً من المطبخ التركي ونقلت المعكرونة، جنباً إلى جنب مع لفظها التركي "معكرانة"، إلى الإمبراطورية العثمانية في مناطق البلقان والشرق الأدنى.

 

نساء الريف
 تتكون "اريشتي" أو كما تكتب بالتركية Erişte، من العجين المصنوع من دقيق القمح والماء، وغالباً ما يكون مخصباً مع البيض، ويتم إخراجه بأشكال طويلة، عبر شوبك رقيق خاص يسمى oklava، ثم يقطع العجين إلى أشرطة مماثلة لتالياتيلي. توضع هذه الشرائط بشكل مرتب فوق بعضها البعض، ثم تقطع شرائح بالعرض إلى قطع تشبه عود الثقاب، وتتترك لتجف على ورقة نظيفة ويتم تخزينها في أكياس القطن لاستخدامها لاحقاً. ويمكن أكلها أيضاً مطبوخة طازجة. كما في حالة الإيرشتي مع الجبن والجوز والمعروفة باسم CEVIZLİ ERİŞTE. تقليدياً يتم إعداد erişte في الريف التركي بكميات ضخمة، حيث تكثر مشاهد النساء حاملات سلال البيض، بعد الحصاد في أواخر الصيف. يقمن بالتناوب لمساعدة بعضهن البعض في إعداد "الايرشتي"، وتحويل هذا الطقس إلى جو مع الأغاني والنكات. نتاج عمل النساء المتعاضدات يتم تجفيفه على شباك نظيفة في بقعة متجددة الهواء، أو في بعض المناطق، على قطع خبز جافة لإزالة الرطوبة منه، مما يجعله جاهزاً بما فيه الكفاية وقادراً على البقاء لآخر فصل الشتاء دون أن يصاب بالتعفن. أيضاً بالإمكان صناعة هذه المعكرونة التركية من مكون شتائي آخر، هو القمح الكامل، أي البرغل. من المفيد أن نذكر أيضاً أنه يمكن أن يتم تصنيع "الإيرشتي" في كميات أقل من المياه لتمكينه من استيعاب جميع العصائر لاحقاً في الطبخ، وهو ما يعني أن أياً من الفوائد لا يضيع.