أعلى

 

تعرف المدن، ببناياتها الأثرية ومتاحفها، كما تشتهر بساحاتها وشوارعها. من أشهر الشوارع والساحات العالمية والعربية، نذكر «الحمرا» في بيروت و«محمد علي» في القاهرة و«الشانزليزيه» في باريس، و«الرامبلة» في برشلونة. وإذا كانت ساحة «جامع الفنا» هي أشهر ساحات مراكش، فإن «جليز» و«فرنسا» هما أشهر شوارعها. وليس «جليز» إلا اسم شهرة للشارع الذي أخذ هذه الأيام اسم «محمد الخامس» عنوانا رسميا، عوض تسمية «جليز»، التي يتشبث بها أهل المدينة وزوارها. يمتد شارع «جليز» على مسافة كيلومترين، تقريبا، ما بين باب «النقب»، أحد أبواب مراكش التاريخية، على الجهة المؤدية إلى ساحة جامع الفنا، والبناية القديمة لمقهى «السفراء»، المحاذية لشارع عبد الكريم الخطابي، المفتوح بدوره على «بين القشالي» و«جبل جليز»، أي أنه يوجد خارج سور المدينة القديمة، ضمن حي «جليز»، الذي شيد خلال فترة الحماية، الشيء الذي يعني أن تاريخ الشارع القصير في سنواته لم يمنع أن يصير الشارع أحد أشهر شوارع مراكش والمغرب. وتعود تسمية «جليز»، بحسب البعض، إلى التسمية التي كانت تعرف بها منطقة جبل «جليز»، والتي يقال عنها إنه تم تحويرها من عبارة «أدرار نإيجليز»، التي هي تسمية أمازيغية، إذ تعني مفردة «أدرار» الجبل، أما «النون» فتعرف ما بعدها، فيما «إيجليز» تعريف لحشرة صغيرة الحجم وسوداء.

 

ويمثل شارع وحي «جليز» مقياسا لمعرفة التحولات التي ارتبطت المدينة الحمراء، ما بين بداية القرن العشرين ونهايته، وصولا إلى الحاضر، الذي صار متسارعا في تحولاته: عمارات تملأ الفراغات ومحلات تجارية ومطاعم ترافق زوارا اختاروا السياحة أو الاستقرار بالمدينة الحمراء. ومن مميزات شارع «جليز» أنه فسيح وعريض. في المساء، رجال ونساء من مختلف الأعمار والثرثرات، يأتون على صهوة الضيم ممتطين شعرا راقصا أو أغنية بكلمات نزارية ولحن عراقي، وفي البال بقايا أغنية مصورة لنانسي عجرم، وكارول سماحة أو هيفاء وهبي. رجال وكفى. كل يبحث عن من تفتر عطرها لتغمسه فيه. كل يقاوم هروبا ضاغطا نحو أجساد تتمايل في غنج، وهي تغزو كل مساء شارع جليز. جميلات يحملهن الغروب عبر الشارع، كما لو أنهن خرجن لتوهن من إحدى «حكايات» ستار أكاديمي. جميلات وجميلات. فاتنات ينتعلن أحذية رياضية وسراويل جينز على الموضة، وينتهين من التأثيث لشكل الجسد بشعر على النصف أو يلهث في الخلف، على إيقاع حياة مشرعة على الفرح وراحة البال: حداثة متسارعة لا تلغي التعلق بالذاكرة والتراث، من خلال مراكشيات، ما زلن يصنعن بالجلابيب البلدية الغوايات القصوى. يشتهر شارع «جليز» بأروقته التي تعرض لوحاتها ومنحوتاتها على مدار العام، كما ينفتح على أزقة وشوارع يمكن أن تشكل فرصة حديث متشعب عن المدينة، خاصة شارع محمد السادس، الذي كان يسمى، حتى وقت قريب شارع «فرنسا».

 

 ليل شارع «محمد السادس» جميل وهادئ. هو شارع من 5 نجوم: مقاه وفنادق باذخة، فيما «المسرح الملكي»، على الجانب، يستمتع بأضوائه الجميلة، التي ترخي عليه هالة خاصة، تحتاج، فقط، إلى مزيد من اللذة الثقافية. غير بعيد من «المسرح الملكي»، تنتصب بناية «قصر المؤتمرات»، الذي اعتاد استقبال تظاهرات علمية وفنية كبرى، من قبيل المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، حيث يجتمع السينمائيون المغاربة إلى بعضهم، وإلى آلامهم وآمالهم. من السينمائيين المغاربة من يحمل فنا. منهم من يدعيه. تغيرت التسمية، فتحول شارع «فرنسا» إلى جزء من شارع «محمد السادس»، الممتد إلى عمق «دوار الهنا» وبقايا مصنع السكر، الذي قايض السعديون (أسرة حكمت المغرب في الفترة ما بين 1554 و1659) بسكره رخاما إيطاليا. ذهب السكر مشروبا، وأثث الرخام لذاكرة التاريخ، عبر أثارات المدينة. شارع «محمد السادس» هو تلخيص لما تبحث عنه مدينة مراكش، على مستوى استقطاب المشاريع السياحية والتخطيط لبناء عمراني باذخ. بنايات أشبه بالقصور، ولغة المال والرفاهية ترتب للمكان. لن يكون للفقر مكان، هنا. ومن يدري، فربما تصلح «تامنصورت» ما أفسده الفقر. شارعا «محمد السادس» و«جليز» بوجه آخر هما مقاه ومطاعم برواد من مختلف الجنسيات والثرثرات. هي مقاه ومطاعم يرتاح إلى كراسيها رواد يستهلكون، في غالبيتهم، الكلام والدخان والكلمات المسهمة، ويتعجبون لأشياء كيف حدثت ولأخرى كيف لم تحدث، أو ليلعنوا الوقت الصعب والزوجات والأزمنة التي تزوجوا فيها، على رأي الكاتب حسان بورقية: قهوة نص - نص، قاسحة أو خفيفة. هنا، لا تهم جودة المشروب. المهم، أن تكون زاوية الرؤية مواتية لرصد حركة ووجوه الغادين والرائحين.


تتوسط «مراكش بلازا»، النسخة المعاصرة لـ«ساحة جامع الفنا»، وشارع «جليز»، حيث محلات «لاسينزا»، و«لاكوست»، و«مانغو»، و«أديداس»، و«إيطام»، و«مروة»، و«سبور بلوس»، وغيرها: محلات تعرض أغلى الماركات العالمية من أحذية وسراويل وقمصان وساعات وديكورات، وملابس أخرى قد لا تعرف كيف يمكن للبعض أن يقنع «جسمه» بارتدائها، أما المقاهي فلا يجلس فيها إلا من امتلك دفء الجيب وملكت كيانه حلاوة الحياة.

 

إلى الجانب الأيمن من الساحة، ونوافيرها الثلاث، المستطيلة، ينتصب مطعم «ماكدونالدز»، الغاص، على امتداد ساعات النهار والليل، بشباب مغربي منفتح على العصر، وعلى بعضه البعض. على بعد خطوات من رائحة الـ«تشيز بيرغر»، تنتصب بناية «زارا»، بطبقاتها وسلالمها الكهربائية وهوائها المستورد. في الجهة الأخرى، القريبة من ساحة 16 نونبر، التي تحتفي بماء نافورتها، ينتصب محل «دجاج كنتاكي».

 

الجلوس إلى مقاهي ومطاعم شارعي «جليز» و«فرنسا»، يصبح بلا طعم، حين تستبد بك الرغبة في ساحة جامع الفنا. الطريق إلى الساحة ينقل لحركة متواصلة، فيما مساء الشارعين وفيّ لطقوسه وعاداته. سيارات ودراجات نارية وهوائية، وراجلون لا يقلون هوائية تتقاذفهم الأرصفة والطرقات، فيما صومعة «الكتبية» في امتداد النظر، كما لو أنها حارسة للمكان وناسه.