أعلى

 

تعتبر القارة الأوروبية، أو القارة العجوز كما يدعوها البعض، من أفضل الوجهات السياحية والتجارية والثقافية في العالم، ويعزى ذلك إلى روعة طبيعتها الخلابة، ومعالمها التاريخية المتميزة، وثقافاتها الغنية والمتنوعة، فضلاً عن كونها موطن النهضة الصناعية والعمرانية المعاصرة، ومركز إشعاع لكافة مجالات العلوم والفنون والآداب، ولا ننسى أنها منبع جميع تيارات وصرعات الموضة والأزياء العصرية. ورغم ذلك، قد يواجه المرء معضلةً حقيقيةً إذا ما أراد الخوض في طرقات ومدن هذه القارة المليئة بالجنان وهو يقود السيارة، حيث يتوجب عليه اجتياز عدد كبير من الحدود وبوابات العبور. أما إذا اختار التنقل بالطائرة فإنه سيضطر للوقوف ساعات طويلة قيد الإجراءات الأمنية الصارمة، فضلاً عن دفع تكاليف السفر الباهظة. وفي كلتا الحالتين ينبغي عليك تعلم قراءة الشاخصات المرورية واللوحات الإرشادية المتواجدة في كل مكان بعدة لغات، فعلى الرغم من صغر مساحة القارة الأوروبية مقارنةً بباقي القارات، إلا أن عدد اللغات الرسمية التي تتحدث بها شعوبها تناهز الخمسين لغة !!

 

قد يبدو الأمر محبطاً بعض الشيء، ولكن لحسن الحظ لازال لدينا خيار مثالي لتحقيق حلمنا بالتعرف على مدن ومعالم أوروبا الساحرة، ألا وهو “شبكة القطارات الأوروبية”، وهي عبارة عن شبكة واسعة من السكك الحديدة، ومجموعة رائدة من القطارات السريعة التي تغطي معظم أنحاء القارة، والمجهزة بكافة وسائل الراحة المتطورة والعصرية. وبالمقارنة مع السيارة أو الطائرة، فإنها تعتبر وسيلة سفر اقتصادية وأكثر راحة وأسرع وصولاً. سنتوقف هنا قليلاً مع أحد أشهر قطارات أوروبا السريعة، قطار “يوروستار” الذي يربط ما بين عاصمة النور باريس وعاصمة الضباب لندن، فهو يجعل من هاتين العاصمتين منطقتين متجاورتين على الرغم من البعد الجغرافي الكبير فيما بينهما، ويعود الفضل بذلك إلى سرعة الضوء التي يسير بها قاطعاً المسافة الفاصلة ما بين العاصمتين والتي تبلغ 300 ميل في أقل من ساعتين ونصف، عبر نفق قناة المانش، الذي يصل ما بين فرنسا وبريطانيا ويمر تحت القناة الإنجليزية. الأمر الذي يتيح لنا إمكانية التمتع بتناول وجبة إفطار لذيذة في لندن، ومن ثم تناول أشهى الوجبات الفرنسية على مائدة الغداء بعد التجول في شوارع باريس، ومن ثم العودة مساءً إلى لندن للحصول على وجبة عشاء متميزة، وفي حال توفر لديكم الوقت الكافي فبإمكانكم اصطحاب أطفالكم إلى “ديزني لاند باريس” على متن قطار “يوروستار”.

 

وللتمتع بأقصى درجات الراحة والخدمات الفاخرة، عليكم اختيار الركوب بالدرجة الأولى أو بدرجة رجال الأعمال عند السفر على متن القطار “يوروستار” الواصل ما بين لندن وباريس، والذي يغادر محطة “سانت بانكراس إنترناشيونال” للقطارات من قلب العاصمة لندن، لتستقبله محطة “كاغ دو نوغ” في باريس. أما سحر هذه الرحلة الممتعة فيبدأ من محطة “سانت بانكراس إنترناشيونال” بحد ذاتها، التي تعد من أكثر الوجهات رومانسيةً في أوروبا، وأشهر مواقع لقاء الأحباب واجتماع الأصحاب في لندن. فضلاً عن كونها تحتضن بعضاً من أعظم المباني المشيدة خلال الحقبة الفيكتورية في العاصمة، التي تحيط بها مجموعة متنوعة من المطاعم والمتاجر الرائعة، كما يستظل بسقف المحطة أحد أفخر فنادق العالم، “ذا سانت بانكراس رينيسانس”. يعد فندق “ذا سانت بانكراس رينيسانس” جوهرة لندن، وأيقونة المنشآت الفندقية المعاصرة، الذي يختبئ وراء واجهةٍ لا مثيل لها في العالم، بل هي أقرب ما تكون إلى قصور وقلاع القصص والحكايات، ويقف وراء هذه التحفة المعمارية السير “جورج غيلبرت سكوت”. يفتح فندق “ذا سانت بانكراس رينيسانس” أبوابه على بهو فسيح بتصاميم داخلية وديكورات تحاكي عظمة هذا المكان، وتقف شاهداً على تاريخ حافل غصت به غرف وصالات الفندق على امتداد السنوات الماضية. ومن هناك تهبط بنا أدراج ملكية ضخمة إلى مطعم “غيلبرت سكوت”، حيث تنتظرنا قائمة المأكولات والأطباق اللذيذة، التي حضرها لنا رئيس الطهاة الشهير “ماركوس وارنغ”. أما أجواء الراحة والسكينة فستجدونها في منتجع “سانت بانكراس” الصحي، الذي يحملكم إلى عالم الاسترخاء المطلق، من خلال جلسات التدليك والعلاج الخاصة، وأحواض السباحة المغطاة، وغرف اللياقة البدنية. في حين يبرز مفهوم الطابع الملكي للفندق من خلال غرفه وأجنحته، التي تجسد الرفاهية بكامل مكوناتها وتفاصيلها.

 

لن يغطي الفراغ الذي ستشعر به في داخلك عند مغادرة محطة “سانت بانكراس إنترناشيونال”، إلا تجربة التجول الرائعة في محيط محطة “كاغ دو نوغ” في قلب باريس، التي تبعد محطة مترو واحدة فقط عن هضبة الشهداء “مونمارت”. وتعتبر محطة “كاغ دو نوغ” من أكثر محطات القطارات ازدحاماً بالمسافرين في العالم، فهي تشكل نقطة الوصل بالنسبة لحوالي 190 مليون مسافر سنوياً، كما أن لها حضوراً قوياً في عالم السينما، حيث ظهرت في العديد من الأفلام الفرنسية والعالمية الخالدة. أما إذا ما أغمضنا أعيننا في باريس لنفتحها في روما، فسنجد فردوس إيطاليا المتحرك الذي يربط ما بين روما وفلورنس، قطار “إيتالو” ذو السرعة الفائقة، الذي يقدم تجربة سفر خيالية ومتطورة جداً في الوقت ذاته، يمر عبر أجمل وأروع محطات ومناطق إيطاليا الساحرة، التي طالما ألهبت مخيلة الشعراء. بالإمكان ركوب قطار “إيتالو” المنطلق من روما إما من محطة “أوستينسا” أو محطة “تيبورتينا” (ثاني أكبر محطة قطارات في إيطاليا)، وتتميز كلا المحطتين بكونهما تشكلان نقطة انطلاق و وجهة استقبال لاستكشاف معالم وعجائب إيطاليا التاريخية.

 

وتعتبر رحلة السفر من روما إلى فلورنس أو فينسيا من أكثر التجارب راحة ورفاهية، على الرغم من سرعة القطار العالية التي تصل إلى 186 ميل في الساعة، إلا أنه مجهز بعربات أنيقة وفاخرة، ويقدم خدمات رفيعة المستوى تغطي كافة تفاصيل الرحلة، بما فيها قائمة طعام محضرة خصيصاً على أيدي طهاة مطعم “إيتالي” الشهير. أما الأجواء المريحة التي تميز عربات القطار، فتتيح للمسافرين فرصة الاسترخاء والتمتع بروعة المناظر الطبيعية، التي تبلغ أوجها عند الاقتراب من فلورنس. هناك، سترحب بنا محطة “فيرنزا سانتا ماريا نوفيلا”، التي ستستقبلنا بالعديد من الأعمال الفنية الخالدة التي أبدعتها أنامل فناني المدينة على مر العصور، وبتصاميمها المعمارية والهندسية الرائعة، بالإضافة إلى أن موقعها المميز الذي يضعها على بعد خطوات فقط من أشهر معالم المدينة. أما محطة “فينسيا سانتا لوسيا” فستفتح أمامنا أبواب التاريخ نحو مدينة الجسور، ولؤلؤة إيطاليا الساحرة، “فينسيا”. وللحصول على رحلة مثيرة تحفها أجنحة الرفاهية على متن قطار “إيتالو”، على المسافرين اختيار الركوب بالدرجة الأولى، التي تضم الحصول على كافة الوسائل والخدمات الفاخرة، حيث سيتمتع كل مسافر بالجلوس على مقعدٍ مريح و واسع، مصنوعٍ من الجلد ومزود بمسند للذراعين والقدمين قابلين للتعديل حسب وضعية المسافر المريحة، كما أنه ملحق بطاولة طعام خاصة. أما مفاجأة قطار “إيتالو” المتميزة فهي “عربة الاستراحة”، حيث بإمكان المسافرين الاستلقاء فيها على مقاعد خاصة والاسترخاء ضمن أجواء السكينة والهدوء طول فترة الرحلة.

 

أما المسافرين الأكثر تطلباً، فالخيار المثالي لهم هو اختيار الركوب بدرجة النخبة “كلاب كلاس”، التي تؤمن لهم مستوى عالٍ من الخصوصية والرفاهية والخدمات الشخصية. وتقع عربة درجة النخبة “كلاب كلاس” في آخر عربات القطار، لضمان عدم مرور المسافرين منها لعربة أخرى، وتتميز باحتوائها على 19 مقعداً فقط، جميعها مصنوعة من الجلد المريح المزود بمسند ذراعين محشو بالريش، وبشاشة عرض قياس 9 بوصة تعمل باللمس، وتتيح للمسافر حرية مشاهدة البرامج والعروض التلفزيونية المتنوعة. وبالانتقال إلى زهرة أوروبا المتجددة وبلد البحيرات سويسرا، فسنقف أمام رحلة العمر التي لا تنسى على متن قطار “غلاسيير اكسبريس”، القطار البانورامي الوحيد في العالم الذي يعد وجهة سياحية بحد ذاته، وذلك بفضل رحلته الطويلة الممتدة إلى سبع ساعات ونصف، والتي يعبر خلالها بجبال الألب السويسرية الساحرة والمهيبة، فضلاً عن ربط هذه الرحلة الخيالية ما بين أفخر وجهتين للسفر في العالم، مدينتي سانت موريتز وزيرمات. ولتحقيق أقصى درجات الترفيه والاستجمام التي يقدمها قطار “غلاسيير اكسبريس”، على المسافرين اختيار الركوب بالدرجة المريحة “كمفورت كلاس”، حيث تم تصميم كل شيء فيها لتنعموا بتجربة متميزة محمولين على أكف الراحة، لا يشغلكم فيها إلا التمتع بمشاهدة المناظر المثيرة والرائعة لهذه الطبيعة الجبلية الساحرة، وذلك بفضل العربة البانورامية ذات النوافذ الزجاجية الضخمة، التي تغطي أجزاء من سقف العربة أيضاً، لضمان حصول المسافرين على مشاهد كاملة لكل ما يحيط بهم أثناء رحلة القطار.

 

هذا وتتميز العربة البانورامية باحتوائها على 36 مقعداً مريحاً وواسعاً، يتيح للمسافر إمكانية الاستلقاء والتمدد متى شاء، بالإضافة لوجود مرشد صوتي في كل مقعد يقدم معلومات غنية عن كافة المناطق والقرى التي يمر بها القطار أثناء الرحلة. تنطلق رحلة قطار “غلاسيير اكسبريس” الساحرة من مدينة سانت موريتز، التي تتربع على سقف العالم في وادي إنغادين، والشهيرة باحتوائها على أفضل المنتجعات الجبلية في العالم، وعلى أقدم الينابيع المعدنية التي يرجع عمرها إلى 3,000 عام. كما أنها وجهة سياحية للسياح القدمين إليها من جميع أنحاء المعمورة، فجبالها الشاهقة تعد مقصداً لمحبي ممارسة الرياضات الشتوية، فضلاً عن وجود العديد من فرص التسوق المتنوعة والفاخرة، أما سمعة فنادقها ومطاعمها الراقية والعالمية المستوى، فإنها تتخطى الذهب لتداعب بريق الألماس. وبوصول رحلة قطار “غلاسيير اكسبريس” إلى نهايتها في مدينة زيرمات، التي يبلغ ارتفاعها 5,315 قدم فوق سطح الأرض، يكون قد ارتفع مسافة ميل أقرب إلى السماء عن نقطة انطلاقنا في مدينة سانت موريتز. هنا، تتجلى قوة الطبيعة القاهرة في كل مكان، وتتألق بردائها الأبيض على امتداد العام، فهو السمة الغالبة على مشاهد وادي ماتر الخلابة التي تخطف الألباب، وتسحر أعين الناظرين بسكونها المهيب، وبمشهد قمة جبل ماترهورن الذي يعانق السماء بارتفاع يناهز الـ 13,000 قدم.

 

وللحفاظ على هذا الإرث الطبيعي النادر، وحمايته من كافة مصادر التلوث المعاصر، قامت مدينة زيرمات بمنع حركة جميع السيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق في طرقاتها، واستبدلتها بسيارات تعمل بالبطاريات الكهربائية الصامتة، التي تحاكي سكون المكان السرمدي. على الرغم من أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، عصر الابتكارات المتسارعة التي تغطي كافة مناحي العلوم والحياة، وزمن التنقل الرقمي عبر آلاف الكيلومترات بنقرة زر واحدة، إلا أنه لا تزال هناك عوالم جديرة بالاكتشاف، وتجارب لابد من خوضها على المستوى الشخصي، وعلى رأسها السفر على متن “شبكة القطارات الأوربية”.