ايرلندا حاضر مزدهر يمحي عناء الماضي
عين المسافر: وحكى كفن عن سبب ترك أجداده لبلدهم والهجرة الى امريكا، وكيف أن الأوضاع تدهورت في البلاد، وسقطت الأمهات والأطفال أمواتا على الطرقات، وكانت أفواههم ملَونة بالأخضر من العشب الذي مضغوه لإشباع جوعهم الشديد وملئ بطونهم الخاوية. بسبب هذه المأسي يحاول كفن ان ينسى ايرلندا، ولهذا لم يفكر في زيارتها. لذا قررنا أن الوقت أصبح مناسبا لإكتشاف سبب هذا الغضب القديم، والتعرف على الأرض التي هجرها أجداده الايرلنديين دون النظر ورائهم. ان ايرلندا القرن الواحد و العشرين لها وجهان تستطيع رؤيتهما بوضوح على شارعين في مدينة دبلن، شارع «جرتي مور» وسوقه الخارجي الذي يرجع تاريخه الى عام 1920 ويمثل الوجه العالمي الجديد لإيرلندا، حيث تجد المطاعم الصينية وصالونات الحلاقة الافريقية الواقعة على جانب الرصيف، وحيث ترى ابناء الجنسيات المختلفة من الباكستانيين والأتراك وغيرهم وهم ينتقون الخضار والفواكه من عربات البطاطس والتفاح والاجاص الصيني والفلفل الأحمر. وعلى الجانب الآخر من نهر «ليفي»، الذي يمر من وسط المدينة، يقع شارع «غرافتون» الذي يمثل القسم العصري والثرِي من ايرلندا الجديدة، رصيفه معبد بالحجارة السوداء والشوارع الفرعية المؤدية للمكان تتزاحم عليها محلات المصممين المشهورين، والمخازن الكبرى مثل «هوليود براون توماس» الذي يتوسط المحلات الأخرى. تستطيع أن ترى بصمة التغيير في هيئة الشابات وملابسهن العصرية، وفي منظر رجال الأعمال يتنقلون مسرعين وبكل نضارة ببدلهم الرسمية وسماعة الهاتف النقال متدلية من أذانهم.
بعد عقود من الفقر الطاحن والمجاعة المدمرة والاضطهاد من قِبل الانجليز ودور الكنيسة الكاثولوكية قامت ايرلندا اخيرا بتسديد دينها التاريخي، لتنطلق بحلة جديدة وتوجه عصري. ان مجموعة الحقائق المتعلقة بعضوية الاتحاد الاوروبي وعروض الاستثمار المغرية للشركات الاجنبية، وابتعاد الكنيسة عن الحياة العامة وعدم تدَخلها فيها، ومستوى التعليم العالي في مجال الأعمال، كل هذه أدت الى تغيير اجتماعي و اقتصادي عال لايرلندا وجعلها محبوبة الاتحاد الاوروبي. والسلام ليس الشيء الوحيد الذي حصل عليه اقليم شمال ايرلندا التابع لبريطانيا، والذي ادى الى خلق قوة جديدة لحكومة مشتركة، لقد ادى ذلك الى القضاء على البطالة. كما ان صورة الايرلندي العاطل عن العمل بدأت تتبدد بعد ان اصبح العمل والاستهلاك هي من صفاته الجديدة. خلال الخمس سنوات الأخيرة أصبح هناك أكثر من مليون سيارة مرسيدس جديدة تجوب شوارع ايرلندا، ويسمى البلد بايرلندا الشابة لأن 35 بالمائة من مواطنيها أعمارهم تحت سن ال 25، ان غسل الأموال تحول الى مجرد شائعة، وسادت مشاعر الحيوية والتفاؤل وانتشرت الثقة المبنية على الاعتداد بالنفس. وبناء على نتائج استبيان حالي، وجِد أن الايرلندين هم الأغنى والأسعد شعبا بين شعوب الاتحاد الاوروبي، والأمور تسير لصالحهم بشكل جيد. في الحقيقة؛ ان الكثير من الذين هاجروا الى انجلترا وشمال أمريكا يسارعون الأن في العودة الى ديارهم، وتبقى عجلة الاقتصاد دائرة بوصول ستون ألف عامل سنويا الى ايرلندا.
تظهر ايرلندا اليوم في الاتحاد الاوروبي غنية وقوية، وهي الان الدولة التي يريد الجميع التعرُف عليها. لكن الثمن، ان الماضي يصطدم بطرق مفزعة مع الحاضر، وتبدو ايرلندا في وسط كارثة هوية أساسية. تدق أجراس الكنائس في الراديو والتلفاز لمدة دقيقة يوميا في وقت العصر وعند الساعة السادسة مساء من كل يوم لتذكير الناس بالدعاء للسيدة العذراء، وهذه المسحة الدينية تتم خلال بث برامج اخرى تتناول قصص لعالم الجرائم المنظمة والأسلحة والمخدرات. في وقت الغداء يُبث في الراديو برنامج وطني يسمعه ويتصل به الكثيرين من جميع أنحاء البلاد، حيث يبعثون بسلاماتهم لأحبائهم في البلدان البعيدة، وتذاع الكثير من البرامج المشهورة والشعبية من محطة التلفزيون الوطني باللغة الايرلندية. وبالرغم من كل الجنون المادي وازدهار الحركة الاقتصادية في ايرلندا تبقى الأشياء الجوهرية غير بعيدة المنال، ولا تحتاج الى وقت طويل لتشعر بالطاقة القديمة التي تغمر هذا المكان، والحضارة القديمة المدفونة الأن ما زالت قريبة من سطح العصرية، ويبدو هذا جليا في جبال «كونيمارا» التى قمنا بزيارتها مع عالم الأثار مايكل جبونز والمرشدة السياحية التي لا نسمع منها الا كلمة «اتبعوني». لو كان الخيار لي لما تركت نفسي امشي متعبا وسط مقبرة أطفال مهجورة على نواحي الجبال، حيث كان المطر الجليدي يضربنا كالسوط والعاصفة الهوجاء تثقل حركتنا بقوتها، وهكذا وجدت نفسي في فبراير الشرير أتمشى مع عالم أثار يحمل تحت قبعته تاريخ البلاد الكامل من سبعة ألاف سنة على الأقل. وبينما كنا نتحدث حذرني مايكل من أن أضع يدي في جيبي خلال المشي، أو أن ألمس النباتات لأني ان فعلت ذلك، سأشعل غضب الجن وسينقلبون على رأسي، لا أعلم اذا كان جادا، ولكن كان من الواضح أن بعض قوى الطبيعة كانت منزعجة.
يُظلم الطقس في ايرلندا ويحضى بسمعة غير عادلة. ما أجمل السباحة في المياه الدافئة المتدفقة من «تيار الخليج» الذي يشق الاطلنطي، والاحساس بنسمة البرودة القادمة من جنوب غرب المحيط. في فصل الصيف غالبا ما تشع الشمس وتبقى لوقت طويل، فهي تشرق قبل الخامسة صباحا ولا تغرب تماما الا عند الساعة الحادية عشر ليلا، وفي شهر فبراير يبقى العشب سميكا وأخضرا وتُزهر نبتة الجنشار وتتفتح زهور البرية. في مساء يوم نادر من الربيع الدافىء، ترى الفتيات في طريقهن الى بيوتهن من المدرسة ووجوههن الجميلة متجهة نحو الشمس أو يجلسن على الكراسي الحجرية ويتمتعن بأشعة الشمس تتخلل أجسامهن. توجهنا الى موقع تاريخي مقدَس في أعلى الجبل، لكن الرياح كانت عنيفة لدرجة أن جداول المياه كانت تتمايل في كل الاتجاهات وتبخ الى الاعلى في السماء ومزراب الماء يلتف في الهواء وكأنه شبح يتهدد ويرقص فوق البحيرة، ترتيباتنا لهذه الرحلة تبددت وبعد ذلك قمنا بتجفيف أنفسنا على ضوء الشموع بعد ان انقطع التيار الكهربائي وشربنا الشاى وأكلنا قطع الشوكلاتة في حانة تقع على تقاطع شارع «ليترفراك». منذ أواخر القرن التاسع عشر، حددت ايرلندا أراضيها على اتساع الأراضي الممتدة على جبال «كونيمارا» والبحيرات والساحل المتجعد. اراضيها الغربية واسعة ومفتوحة، لكن الجبال هي الأوسع، كما أن وديانها تبدوا فسيحة ومحتضنة كل البلاد.
قال لي أحد الايرلنديين أنه في الزمن البعيد عندما كان الوطنيون يحارببون بريطانيا لم يكن الموت سببا من اجل التضحية لمدينة دبلن، لم تكن صناعية أو غنية أو حتى أنيقة ولكنها كانت تمثل الرؤيا بالنسبة لهم. ايرلندا منقطة بالبحيرات كأنه بطانية ومحاطة بالبحر والجبال في قلبها، كانها جزيرة افتراضية، وتبدو مخملية في الصيف من شدة اللون الأخضر الذي يغطيها، وتحرق الرياح المالحة مناطقها المحاذية للبحر لتجعل تربتها العميقة بنبة اللون في الشتاء. يقولون أن ميناء «كيلاري» هو الممر الوحيد لايرلندا وأنه كبير بما فيه الكفاية لحمل أسطول كامل من السفن البحرية لأي دولة. يمكنك النقاش حول الجبن الايرلندي المحمص في حانة «جينورز» التي تقبع في أعلى الميناء في «لينيان»، ويمكنك أيضا لقاء قسيس البلدة والتحدث معه، واذا لم يكن مرتديا ياقته البيضاء فستعرفه من سيارته الرياضية التي يعتليها لوح الأمواج الخاص به. وعند حدوث العاصفة تضرب الأمطار سطح صخر الميناء وتقوم طيور النورس بالدوران فوقه حاملة معها البهجة الى أعلى السماء.