أعلى


أمنة منصور (الرأي العام الكويتية): في الفضاء الأزرق الكبير يخفق جناحا طائرٍ مغرّد، وينهمر على قرميد البيوت الحجرية شعاع الشمس فيسطع القرميد. على هذا النحو تستيقظ قرى لبنان؛ الشمس ترتفع فجراً على رسلها لتبعث الدفء في الحقول وتجفّف قطرات الندى عن الأشجار في المَزارع. واللبناني الذي يزيّنه الكرم غنياً كان أم فقيراً، يشرّع لصباحٍ آخر نوافذ تطلّ على يوم جديد. ولأن أصول الضيافة عنوانٌ لكل دار لبناني، فإن بين اللبنانيين القرويين مَن أراد تَشارُك داره مع ضيوفٍ من مواطنيه أو من السياح العرب والأجانب، وذلك خلال مرورهم أو استقرارهم الموقت في البلدات الممتدّة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً بالعاصمة والبقاع والجبل، مقابل مبلغٍ مقبولٍ من المال تحدّده معايير «الرفاهية» التي توفّرها البيوت، حيث تراوح كلفة مبيت الليلة الواحدة في غالبيتها بين 35 و50 دولاراً أميركياً، وصولاً إلى 200 دولار في منازل أكثر فخامةً تؤمّن المسابح وحمامات داخل غرف النوم. وتحت تسمية «بيوت الضيافة»، تندرج منازل لبنانية في قائمةٍ تُعِدّ للضيوف إقامةً هانئةً في أحضان القرى اللبنانية.


إلى الريف دُر

تزخر خريطة لبنان بالمناطق الجاذبة للسياح. بعضها «أشهر من نار على علم»، وبعضها الآخر تنشط فيه السياحة الداخلية فيقصده لبنانيون كمصيفٍ يقي حرّ الصيف أو مشتى يدرأ قرّ عواصف الشتاء. وكما المدن الرئيسية التي تستقطب الزوّار على مدار السنة لما تتمتّع به من مرافق خدماتية أو آثار تاريخية، فإن للريف اللبناني محبّيه الذين يقصدونه باختلاف الفصول والأشهر وفي إجازات الأعياد وعطل نهاية الأسبوع. ولأن زوار الريف هم مَن يبحثون عموماً عن هواء «نظيف» يُنعِشون به صدورهم، فإن «ضيوفاً» كثراً يختارون «بيوت الضيافة» دون الفنادق ليعيشوا التجربة القروية اللبنانية «على أصولها» خلال زيارتهم لهذه القرية أو مرورهم في تلك. ففي «بيوت الضيافة» يكونون «من أهل البيت»، يستيقظون متى شاؤوا على لحن نسائم الهواء عند دخولها إلى الغرف من النوافذ ذات القناطر. وقبل النوم يسهرون على المصاطب في الحدائق المتألقة بالخضرة والمزدانة بالزهور والمضاءة بخفرٍ بضوء القمر. و«الضيوف» في هذه التجربة المميزة لا تنطبق عليهم صفة «النزلاء»، فهم ضيوف بالمعنى اللبناني للكلمة. وما «الراحة المنزلية» و«الخبز والملح» الذي يتشاركونه مع العائلات المضيفة إلّا توطيد لعلاقة اجتماعية تبدأ عند الاستقبال ولا تنتهي بالوداع، بل تتجدد بالـ «استضافات» وتستمرّ بالتواصل. وهؤلاء الضيوف يشغلون عند إقامتهم في «بيوت الضيافة» إما منزلاً مستقلاً تملكه عائلة لبنانية وتشرف عليه لتؤمن خدمةً مريحة لـ «قاطنيه الموقتين»، أو يتشاطرون وأسرةً لبنانية منزلها، فيشاركونها الغرف ويتشاركون معها طاولة الطعام وما تحويه من مأكولات بيتية تعدّها «ست البيت».


إستراتيجية سياحية

في العام 2014، وضمن استراتيجية تشجيع السياحة الريفية، أطلقتْ وزارة السياحة اللبنانية بالتعاون مع الوكالة «الأميركية للتنمية» موقع «ضيافة» الذي نفّذتْه مؤسسة «أنيرا»، ويستعرض بيوت الضيافة اللبنانية بالصور والكثير من المعلومات التي توضح أصول الإقامة وفصولها فيها، مبدّدةً بذلك كل تساؤلات الضيف ومسهِّلةً عليه خياره بين هذا البيت أو ذاك. ميسون قربان المسؤولة عن مشروع «ضيافة»، أكدت لـ «الراي» أن «هذا المشروع مرتبط بالريف وبالطبيعة وبالنشاطات الثقافية والترفيهية والاجتماعية في المناطق الموجودة خارج المدن الرئيسية في لبنان وبالمبيت فيها»، مشيرةً إلى أن «تعريف بيت الضيافة هو ذاك الذي يكون عادةً قديماً وتقليدياً، يقطنه أصحابه أو يقطنون في منزل آخر في البلدة نفسها ويخصصون الأول ليكون بيت ضيافة، ولا تتعدّى غرفه العشر». وأوضحت أن أكثر من جمعية تعمل في لبنان اليوم على موضوع بيوت الضيافة، حيث تهتمّ «أنيرا» بـ «المنامة» وجمعيات أخرى بالنشاطات والأكل، وذلك بهدف تطوير السياحة الريفية، لافتة إلى أنه مع رواج بيوت الضيافة واهتمام الناس بخوض تجربة الإقامة فيها، كان لا بد من تحديد المواصفات التي يفترض أن تنطبق على البيوت وما تقدّمه من خدمات، فقامت «أنيرا» بوضع مشروع لهذه المواصفات بدأ تطبيقه منذ العام 2014 ويتناول شكل البيت من الداخل والخارج، الخدمات من فطور وتاكسي والإرشاد وإدارة البيت، وكاشفةً أن المؤسسة قامت عبر اختصاصيين بتدريب مباشر لكل بيت على مدى عام، متناوِلةً موضوعات مواصفات البيت، سلامة الطعام والنظافة، إعداد الفطور ومكوّناته التي تظهّر عادات وتقاليد القرية اللبنانية، التسويق، والإدارة. وأضافت: «بعد ذلك عمِلنا على إنشاء جمعية (ضيافة) الخاصة ببيوت الضيافة كنوعٍ من النقابة، هدفها الاهتمام بشؤون تطوير القطاع والتسويق له ودعم البيوت تقنياً ومعنوياً». وشرحتْ الفوائد الاقتصادية الجمّة لهذه البيوت بالقول: «تستفيد من بيوت الضيافة كل القطاعات في الضيعة، فهي فضلاً عن كونها تؤمّن مدخولاً لمالكها، فإن ما يتمّ شراؤه من حاجيات للضيوف يكون من منتجات الضيعة نفسها، ناهيك عن الإفادة من الخدمات المتوافرة في مؤسساتها كالحوانيت وبرامج المشي والإرشاد وسيارات الأجرة وصالونات التزيين والحلاقة». وإذ لفتت إلى أن «المهتمّين بهذا النوع من السياحة هم بالدرجة الأولى من اللبنانيين والسياح الأوروبيين»، أشارت إلى «أننا بدأنا نلمس تزايد عدد المهتمين بهذه السياحة من الدول العربية، فعامل التسويق مهمّ جداً في الترويج لها في هذه الدول». اللافت في هذه «الإقامة»، تقول قربان، هو «الحياة الاجتماعية التي تنشأ وقضاء الضيوف والمضيفين وقتاً ممتعاً تحت سقف واحد»، متحدثةً عن تَبادُل زيارات بين هؤلاء، وإقبال دائم على قضاء العطل في بيت الضيافة نفسه مع العائلة نفسها.


تجارب... وتَقارُب

«العقد» في الباروك، «الياسمين» في صور، «بيت الكروم» في زحلة، «بيت الهنا» في معاصر الشوف، «ديوان البيك» في دوما... أسماء جذابة لـ «بيوت ضيافة» أكثر جاذبية، توفّر الإقامة فيها تجربةً فريدة لا تشبه إلا البيت ومالكيه والضيعة بما فيها من ناس وطبيعة تخطف الأنفاس. ميراي تبشراني مالكة «بيت الضيافة» الذي يحمل اسم عائلة تبشراني في بسكنتا (المتن)، تحدّثت بحماسة عن تجربة إشغال منزلها الذي تقطن فيه مع أسرتها من قبل ضيوف باتوا منذ العام 2013 من «أهل الدار»، ينامون في المنزل ويتناولون من طعامه مقابل 45 دولاراً للشخص في اليوم تشمل العشاء، المبيت والفطور. ورداً على سؤال «الراي» عن سبب إقدامها على فتح بيتها لزوار بلدتها «بسكنتا»، لفتت تبشراني إلى أنها تعمل مرشدة سياحية، وتحب في الأصل الناس والتواصل معهم، مشيرةً إلى التفاعل الرائع بين عائلتها والضيوف. وكشفت أن مَن تستضيفهم في منزلها هم من جنسيات مختلفة، بينهم عرب يحضرون في الشتاء لحضور عروض الثلج. وأضافت: «الضيوف متى حضروا نعدّ لهم الطعام اللبناني البيتوتي». تبشراني، وبعد سنوات على إدراج منزلها ضمن «بيوت الضيافة»، لم تعد قادرة على إحصاء عدد الذين استضافتْهم، لكنها تذكر الكثيرين منهم، فالتواصل مستمرّ وغالبيّتهم يكررون المبيت مرة واثنتين وثلاثة في منزلها، وهي شدّدت على حرصها على ضيوفها فهي تستقبلهم بعبارة «اعتبروا البيت بيتكم». نبيل نجار مالك منزل «بيت النسيم» الحجري القديم في مدينة الميناء في طرابلس (شمال لبنان)، يقيم في المنزل نفسه الذي خصصّه بيتاً للضيافة. وهو بدوره يُحْسِن استقبال الضيوف، فهنا أيضاً «البيت بيتهم». منذ العام 2012 أدرج نجار منزله في قائمة «بيوت الضيافة» ليكون فسحة تلاقٍ، ويؤمّن من خلاله مدخولاً إضافياً. فإلى جانب المبيت، يوفّر «بيت النسيم» طعام «الترويقة» والعشاء الذي يُحضّر إذا أراد الضيوف ذلك، وبعد الاتفاق معهم ليكون إما نباتياً أو مُعدّاً من السمك ليشبه منطقة الميناء في طرابلس. الضيوف هم من اللبنانيين والأجانب، ويختارون منزل نجار لأن فيه لمسة شخصية. وهو كمضيف يطلب إلى ضيوفه أن يتصرّفوا وكأنهم في منزلهم، فيعرب هؤلاء بدورهم عند الإقامة أو قبل الرحيل عن فائق سعادتهم لتجربة الإقامة في منزله التراثي.


إلى ما تقدَّم، يُقدِّم «بيت النسيم» صفوف «يوغا» يستفيد منها الزبائن الكثر الذين أقاموا في هذا المنزل، وباتوا يكررون الإقامة كلّما سنحتْ لهم أوقاتهم بذلك نظراً لما شعروا به من استقبال حميم ودافئ، كما يقول نجار لـ «الراي»، مؤكداً أنه ينوي الاستمرار في هذا المجال لأن «الأمر بات جزءاً من يومياتي وأحبّ التواصل المستمر مع الناس». في الخريبة الشوفية، حوّل سليم الأشقر بدوره، ومنذ 13 عاماً، «بيت الضيافة» الخاص به إلى جزء من يومياته، حتى أنه بعد بضع سنوات على انطلاقه في هذه التجربة ترك عمله ليتفرغ تماماً لاستقبال ضيوفه. وعن رغبته في تحويل الطابق الأرضي من منزله بيتاً لاستقبال السياح، يقول لـ «الراي»: «عند إنشاء محمية أرز الشوف ونظراً لعدم وجود فنادق في البلدة رغبتُ في تحويل منزلي التراثي والكبير إلى بيت للضيافة... وهكذا حصل». على مدار فصول السنة وأشهرها يستقبل الأشقر ضيوفاً من جنسيات مختلفة؛ يأتون مجموعات بأعداد متنوعة وبعضهم يحضر في الأعياد ليقضي أجمل الأوقات. فالإقامة تشمل طعام الفطور بـ 35 دولاراً في الليلة للشخص الواحد. أما الـ «menu»، فيضمّ مأكولات بلدية وأصيلة، فيما تكون التحلية إضافة إلى المربيات، فواكه طازجة يقطفها الزوار مباشرة عن الأشجار المثمرة الموزَّعة في الحديقة الخضراء التي تلفّ المنزل. بشهادة من ضيوفه، إن ما يجعل من بيت آل الأشقر بيتاً للضيافة ومقصداً للضيوف هو الراحة المؤمَّنة بصورة دائمة فيه، إن لجهة الغرف المجهَّزة لأفضل استقبال أو الترحيب الحار من سليم نفسه «فهم يشعرون في منزلنا بأنهم أفراد من عائلتنا» بحسب تعبيره.

في بشرّي (شمال لبنان)، ومنذ عشرة أعوام، خصص أنطوان طوق منزله «بيتاً للضيافة» واختار له اسم «Tiger House»، فترك عمله وانصرف مع زوجته لخدمة ضيوفهما والسهر على راحتهم عبر خدمات شتّى، منها النقل عبر «التاكسي» وغسيل الملابس وإعداد وتقديم الطعام. فراح السياح ومن مختلف الجنسيات يقصدون منزلهما لما يتمتّعون به من راحة وخصوصية في آن. فصحيح أن أنطوان يقيم في البيت نفسه، إلا أنه يترك للضيوف مساحة من الخصوصية تخوّلهم تناول الطعام والجلوس وحدهم «إلا إذا أرادوا العكس، فنحن نجلس معهم بكل سرور»، كما يقول طوق لـ «الراي». طوق يصف منزله بـ «شاليه» كبير، مؤلف من ست غرف يمكن للضيوف استخدام أربع منها، مستثنياً بذلك غرفةً له ولزوجته والمطبخ الذي يُمنع على الضيوف دخوله لأن زوجته تفضّل الطهو «بهدوء» لتقدّم لهم مائدة لذيذة. وهذه القاعدة لا تزعج الضيوف، فطوق لا يقصّر معهم بكل أصول الضيافة ومتطلباتها، وهم من جانبهم لا يكتفون بإقامة واحدة في بيته، بل يكررونها بين الحين والآخر.