أعلى

 

 

 

نشرت في الأسابيع الأخير عدة لوائح لما يعتبره رجال الأعمال أفضل مدن العالم، وهي تختلف في الترتيب، ولكن المدن التي تقع في اللائحة تتكرر في المراكز المتقدمة. من أشهر اللوائح التي نشرت في الآونة الأخيرة كانت من نشرة «بزنس إنسايدر» المتخصصة التي وضعت نيويورك في المقدمة، تليها لندن ثم باريس ثم طوكيو ولوس أنجليس. بينما اختارت مطبوعة اسمها «أسك من» برشلونة لقمة اللائحة تليها بيونس آيرس ثم ميامي ونيويورك ولندن. واختارت مطبوعة «أطلانطيك» الخمسة الأوائل بالترتيب التالي: نيويورك، تورنتو، سان فرانسيسكو، أستوكهولم، سيدني.


وهذا يعني أن لكل مدينة مزاياها وعيوبها وأنه ليست هناك مدينة «فاضلة» ليس بها أخطاء ولا عيوب. ولكن الذي يجمع بين هذه المدن هو مزيج من تسهيل قيام الأعمال فيها ونوعية الحياة الاجتماعية والتسهيلات الخدمية والترفيهية المتاحة وكفاءة المدارس ومستوى المعيشة، ودرجة رضاء أو سعادة المقيمين فيها. وهي مجموعة من العوامل التي توفر في مجملها مؤشر لنوعية الحياة في هذه المدن.

 

وترتكز المقارنات أحيانا على سؤال رجال الأعمال دائمي السفر عما إذا كانوا يفضلون الإقامة في المدينة التي يزورنها بالمقارنة إلى المدينة التي يقيمون فيها بالفعل. وتأتي الإجابات مختلفة باختلاف المدن، ما بين: «لا بالتأكيد» إلى «ربما لفترة قصيرة»، أو «لا مانع من الإقامة في مدينة رائعة كهذه». وبالطبع يعزز رجال الأعمال إجاباتهم بالأسباب التي يعتمدون عليها؛ وتشمل: الموقع، والطقس، ومناخ الأعمال، ونوعية المواصلات، ونسبة التضخم، واللغة السائدة.. وهي أيضا تؤشر لنوعية الحياة في هذه المدن. ومن مجمل إجابات قطاع الأعمال، يمكن ترتيب جاذبية المدن المختلفة في العالم وتنسيقها في جدول أفضل مدن العالم، وهو ما يحدث بالفعل في عدة قوائم تنشر كل عام.

 

ولا يقتصر الأمر على المدن الغربية، فهناك أيضا بعض المدن العربية التي تظهر على المؤشرات الدولية مثل طنجة المغربية التي تقع في المركز الثاني على مؤشر «لونلي بلانيت» السياحي لعام 2011. وفي حين تأتي بغداد في قاع معظم اللوائح المنشورة، فإن العديد من النشرات، مثل «ويكيبيديا» تشير إلى أن مدن الشرق الأوسط في طريقها إلى التألق في المستقبل.

 

ويعتبر رجال الأعمال هم «ترمومتر» قياس درجة حيوية ونوعية المدن لأنهم يزورون العديد من المدن ويستطيعون المقارنة بينها. وتختلف نظرة رجال الأعمال إلى مدن العالم لأسباب متعددة، ولكنهم يتفقون على معرفة المدن المفضلة التي تقدم لهم أكبر نسبة جاذبية في ما تقدمه لهم من تسهيلات وخدمات يبحثون عنها. وفي السنوات الأخيرة، ارتفع رصيد المدن التي تقدم الأمان وسهولة الاتصالات بتقنيات راقية. وهم يفضلون المدن التي تسهل مهام الأعمال وتوفر الوقت والجهد بتقليص الروتين وتسهيل حياة مواطنيها لكي تكون مريحة ومنتجة في الوقت نفسه.

 

وفي حين يشعر العديد من رجال الأعمال بأنهم لا يستطيعون العيش في مدينة أخرى غير تلك التي يعرفونها جيدا وربما ولدوا فيها وتمتعوا بالتواصل بين الأهل والأصدقاء داخلها، فهناك أيضا العديد الذين يأملون يوما في الحياة في مدن توفر لهم معيشة أفضل من حيث فرص التعليم الجيد للأطفال وخدمات صحية متحضرة وفرص تسوق أرقى ومناخ أعمال أفضل.

 

وهناك أحيانا بعض الملامح التي تجذب العديد من الزائرين إلى مدن معينة؛ مثل البعض الذي يفضل لندن مثلا عن مدن أوروبية أخرى، لأنها توفر مناخا عالميا تتاح فيه نوافذ على كل الحضارات، ولغة سهلة، وأحياء عربية بالكامل مثل منطقة «بييزووتر» وشارع إدجوير. ويستطيع العربي المقيم في لندن أن يعيش وكأنه في مدينة عربية ولكن مع فارق أنه يعيش بحرية مطلقة في ما يفعل ويرتدي ويقول، ومع ذلك، يمكنه أن يقرأ صحيفته المفضلة يوميا وهو يتناول قدحه من الشاي أو القهوة وربما أيضا النرجيلة في شارع بريطاني تماما. وهكذا هي الحال مع كل الجنسيات الأجنبية الأخرى التي تجد مجتمعات مصغرة تتيح لها المعيشة في نطاق حضاراتها.

 

كما يفضل البعض مدينة مثل هامبورغ الألمانية بسبب مطارها الصغير عالي الكفاءة ونظامها الألماني وخدماتها المتميزة كأحد أفضل الموانئ الأوروبية على الرغم من مناخها البارد. وفي باريس، يتكرر مشهد لندن على نطاق مختلف في الحي اللاتيني الذي تسوده روح عربية شرقية شمال أفريقية ولكن بنكهة فرنسية خالصة.

 

أما الاقتراب أكثر من البيئة العربية فهو متاح في الأندلس؛ حيث الحياة تماثل تماما ما يجري في مدن شمال أفريقيا مع فارق اللغة والحضارة الأندلسية المميزة. وفي الأندلس، يمكن للمقيم أن يذهب إلى مطعم لتناول وجبة قرب منتصف الليل، وهو شيء صعب في مدينة مثل لندن أو ميونيخ التي تغلق معظم المحال فيها قرب الحادية عشرة مساء.

 

وتعترف معظم المطبوعات التي تنشر مثل هذه اللوائح، بصعوبة ترتيب هذه المدن بناء على عوامل متغيرة وليس على عامل واحد؛ مثل أفضل المدن قياسا بنسبة التضخم مثلا، أو أفضلها تعليما، أو اتصالات.. وهكذا. فتلجأ مطبوعة مثل «إيكونوميست إنتليجانس يونيت» إلى ترتيب المدن بناء على مقياس إحصائي يشمل مستوى الأجور، ونوعية المدارس، وتكاليف الرعاية الصحية، بينما تتخصص مطبوعات أخرى مثل «مونوكول» في إضافة عوامل أخرى قد تكون غير ملموسة، مثل التواصل داخل المدن، وكيفية العلاقات الاجتماعية فيها، ودرجة التسامح تجاه أنماط مغايرة من المعيشة تعيش في سلام ووئام اجتماعي بين أبناء المدن وزائريها وحتى الأجانب المقيمين فيها. وتضيف المطبوعة أيضا نوعية الحياة الثقافية في المدن؛ من مسارح ودور سينما وندوات وحفلات ثقافية واجتماعية.

 

ومع جمع كل هذه العوامل تأتي النتيجة أحيانا كمفاجأة؛ ففي عام 2007 كانت أفضل مدينة للمعيشة فيها وفق هذه المعايير هي مدينة ميونيخ الألمانية. وفي 2008 ظهرت مدينة كوبنهاغن في المركز الأول بدلا من ميونيخ بفضل تفوق المدينة الدانمركية في ابتكار وسائل الحفاظ على البيئة بالإضافة إلى مستويات المعيشة المتفوقة فيها وتنوعها الثقافي والعرقي وشبكة المترو عالية الكفاءة فيها. وفي العام الماضي كانت زيوريخ السويسرية في المركز الأول.

 

وهذا العام أضيفت عوامل أخرى في مقياس اختيار أفضل المدن العالمية؛ مثل: سهولة بداية الأعمال الصغيرة فيها، وسهولة التأقلم على الحياة فيها من الزائرين والسياح. ولم يركز الباحثون كثيرا على جوانب مثل: نوعية المطاعم والتسوق لأنهم اكتشفوا أن كل المدن تقريبا فيها مقاه جيدة على نمط «ستارباكس» ومطاعم متشابهة. كما تحول التركيز أيضا إلى المدن التي تتيح حياة سهلة لسكانها بعيدا عن الضغط العصبي سواء كان من ازدحام المواصلات أو سوء التعامل والإحباط.

 

ومع كل هذه العوامل مجتمعة، لم يتغير الترتيب المتفق عليه من عدة مصادر؛ منها مطبوعات «ميرسر» و«الإيكونوميست» بالإضافة إلى «مونوكول». وكانت العوامل الحاسمة لصالح نيويورك في أغلبية الإحصاءات بفضل الحياة الثقافية فيها، ومرونة الأعمال فيها، وسهولة النقل والشحن بكل أنواعه منها وإليها. وهناك أيضا التسهيلات الرياضية، والترفيهية، والإقبال السياحي عليها. وتوفر بلدية المدينة ثروة من المعلومات الثمينة عن كل شيء تقريبا؛ بداية من كيفية استخدام وسائل المواصلات، إلى إجراءات تكوين شركة صغيرة والحصول على مكاتب بإيجار مخفض. ويخدم مطار المدينة مئات الوجهات عالمية كما يقبل على مشروع توسع وتحسين خلال هذا العام. وزار المدينة في العام الماضي 48 مليون سائح. ولا يعيب نيويورك سوى صعوبة المواصلات فيها.

 

وفي تورونتو كانت عوامل بيئية مثل نظافة الهواء ووجود الحدائق العامة والتسهيلات الرياضية من ضمن أبرز المزايا، بينما افتقرت المدينة إلى شبكات مواصلات عامة جيدة.

 

ولا توجد مدن عربية بالقرب من قمم لوائح أفضل المدن بعد، ولكن هذا قد لا يكون مفاجأة، لأن العديد من المدن العالمية الجيدة لم تصل إلى مواقع متقدمة على اللائحة رغم توافر العديد من الخدمات فيها؛ ففي منطقة جنوب شرقي آسيا التي يوجد فيها كثير من المدن الناشئة لا يوجد على اللائحة بجوار طوكيو سوى سنغافورة وعدة مدن يابانية أخرى. وكذلك لم تصل إلى اللائحة أي مدينة أفريقية، ويوجد قليل من المدن اللاتينية.

 

وخارج نطاق لوائح أفضل المدن في العالم، تبذل العديد من المدن الطموحة جهدا في تحسين التخطيط الداخلي فيها وحل مشكلات المواصلات والازدحام وزيادة كفاءة الخدمات والعناية بالنواحي الثقافية، وجميعها عناصر مهمة في جذب العمالة الماهرة بالإضافة إلى الجذب السياحي أيضا. وتنظر بعض المدن إلى نماذج خارج اللائحة مثل مدينة لاس فيغاس الأميركية التي بنت لنفسها صناعة سياحة هائلة ومتطورة من لا شيء تقريبا.

 

وتعتبر برشلونة الإسبانية وكيب تاون في جنوب أفريقيا من النماذج المتميزة التي تمزج بين الثقافة والطقس والسياحة لجذب خبراء التقنية للإقامة فيها. وتتفوق برشلونة تحديدا في خلق انتماء قوي لاسم المدينة عبر جذب ثلاثي للاستثمار والسياحة والمهارات التقنية. وهي مثال ينظر إليه مخططو المدن وخبراء تسويقها حول العالم.

 

ويمكن للمدن العربية التي تحاول تطوير سمعتها وصورتها العالمية أن تدرس ما وصلت إليه مدن العالم سواء داخل لائحة أفضل المدن أو خارجها من أجل الارتقاء بمستويات المعيشة فيها وجذب المزيد من السياحة والاستثمار إليها. فالمدن الناجحة تتوسع حجما ونوعية وتصدر نجاحها إلى المدن القريبة منها.

 

وفي رأي المسافر العربي أن أفضل ما يمكن أن تقدمه المدن لزوارها قبل الخدمات والاتصالات الجيدة هي نوعية الضيافة ومدى بشاشة المقيمين فيها بالنسبة للغرباء من الزوار. وبهذا المقياس تسقط معظم الدول المصنفة على قمة اللائحة وتحل محلها أكثر من مدينة عربية تفتح أبوابها للجميع وتغدق عليهم الترحاب والضيافة حتى ولو افتقرت إلى الخدمات. وبالطبع تنعكس مراتب المدن على قيمة العقار فيها ومدى جاذبية كل مدينة للاستثمار الدولي، وتجتهد إدارات المدن في تحسين الخدمات من أجل تحقيق مراكز متقدمة على لوائح أفضل مدن العالم التي تنشر سنويا.